تشوّهات على جسد المنظمة الشغيلة

* قوة القيادة هي في تحويل الأخطاء ولحظات الانكسار إلى فرص للحياة لذلك لا حرج في طي صفحة الخلاف والنأي بالمركب عن الاصطدام بصخور قد لا تغرقه في الإبان لكنها ستحدث شروخا يصعب كي لا نقول يستحيل رتقها قبل الوصول إلى برّ الأمان
* كنّا مطالبين بالانسجام بين ما نقدّمه لشعبنا من رؤى وما نمارسه داخل المنظمة، ومثلما نقول في الشارع أن الشرعية الانتخابية يمكن أن تهترئ، فنفس القاعدة تنطبق على النقابيين الذين صوّتوا للإجماع وللماكينة أو بالنسبة إلى أهمية فكرة التداول على المسؤولية

لم نكن بحاجة إلى القضاء.. هذا ما يمكن قوله اليوم، بعد أن خرج «القرار» العمّالي النقابي من خيمته ليبُتّ فيه القاضي لصالح هذا الطرف أو ذاك في سابقة هي الأخطر في تقديرنا من حيث الشكل والمضمون والتداعيات على حياة الاتحاد العام التونسي للشغل، ولنا في وضعية عدد من الكيانات المدنية وحتى السياسية الأخرى أكثر من مثال لا فائدة في ذكرها، ويكفي التأمّل في المشهدية التونسية للوقوف على الحقائق المؤلمة التي تأسّست على اللّجوء «القسري» للقضاء وعدم الاحتكام للديمقراطية

******

الخميس 25 نوفمبر 2021 خميس آخر للنسيان والتجاوز في تاريخ واحدة من أعرق المنظمات في العالم.. المحكمة الابتدائية بتونس العاصمة تصدر حكما يقضي ببطلان القرار الصادر عن المجلس الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقد أيام 24 و25 و26 أوت 2020 والمتمثل في الدعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي زعمت قيادة المنظمة الحالية أن أبرز رهاناته «تطوير أداء الاتحاد من خلال تطوير قوانينه وجعلها أكثر مرونة وقدرة على استيعاب متطلبات عالم العمل الجديد الذي يشهد تطورات عدة إضافة إلى تعزيز وحدة الاتحاد وإنهاء النقاش حول تنقيح القانون الأساسي وأخيرا تفرغ النقابيين لإنقاذ البلاد ولعب دور وطني في علاقة بالملفات الكبرى والحارقة»، لكن المخرجات كلّها انحسرت وانحصرت بعد 8 جويلية 2021 في تنقيح الفصل 20 من القانون الأساسي والذي يسمح بالتمديد لأعضاء المكتب التنفيذي لأكثر من عهدتين نيابيتين وهو ما تم إقراره في زمن غير بعيد في مؤتمر سابق، وبدعم وتأييد من عناصر غيّرت مواقفها الآن للأسف

وكما هو معلوم فإن الأغلبية الساحقة من المكتب التنفيذي يتقدّمها الأمين العام نور الدين الطبوبي، معنية بـ«الإقصاء» ديمقراطيا ومؤسّساتيا من الترشح في المؤتمر الوطني الانتخابي المزمع تنظيمه في 25 فيفري القادم في حال إسقاط مخرجات مؤتمر الصائفة الماضية، كما أن عضوين من القيادة الحالية التي تضم 13 عضوا على الأقل، جاهرا برفض «التمديد» وأبديا التزامهما المبدئي بعدم التجديد إلى جانب عضو آخر غير معني بالشرط الإقصائي لكنه يدافع عن المبدإ حسب تصريحاته

وبالفعل، لم نكن بحاجة إلى القضاء… ليس مصادرة لحقّ من استجار بالقضاء، فعندما تضيق سبل التشاركية والحوار والديمقراطية والتوافق وهي يافطات الاتحاد ومبادئه وخياراته، يصبح من حقّ أبنائه – أقلية كانت أو أغلبية – الذهاب إلى أبغض الحلال إن جاز القول والاستقواء بالقضاء لإعادة الأمور إلى نصابها مع التأكيد على الفرق بين من يطرح المسألة من باب الدفاع المستميت عن المنظمة الشغيلة وتاريخها ورصيدها ودورها الوطني والاجتماعي، ومن يركب الموجة لإغراقها وهم كثر

هنا نؤكد – وبكل حزم – أننا لم نكن بحاجة إلى القضاء… والحديث موجّه وبقوة إلى القيادة التنفيذية للاتحاد التي من واجبها ودورها الحفاظ على المركب والتفطن إلى أن تعريض المنظمة في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به البلاد وتمر به مكونات المجتمع المدني والسياسي لا يسمح بالتعنّت أو المغامرة أو التغيير غير محسوب العواقب والاستقواء بـ «الماكينة» التنظيمية أو كما يسمّيها البعض / البيروقراطية
إن أخطر ما يهمله قادة المنظمات والأحزاب والنقابات على حد سواء في تونس وفي البلدان المشابهة، هو أن المرور بتجربة قيادية ليس فقط جلوسا أو تأبيدا للجلوس لمسك مقود القيادة، وإنما التفكير والعمل على تأمين مستقبل التنظيم بترك رصيد إيجابي أولا والأهم من ذلك ثانيا تأمين انتقال القيادة للأجدر والأقدر على الاستمرار في الإبحار نحو برّ الأمان على قاعدة نفس الثوابت والمبادئ والمشاريع، وعندما يقول قيادي انتهت ولايته أنه يخشى ترك التنظيم لمن يفترسه فهذا ليس موقفا مسؤولا بقدر ما هو كشف حساب وإقرار بالفشل ودليل على العجز في تأمين المستقبل كما أسلفنا، ومن لم يُوفّق خلال أكثر من عقد في وضع بصمته وتحصين التنظيم، يصعب التكهن بنجاحه وتوفيقه حتى وإن منحناه المسؤولية مدى الحياة

أجل، لم نكن بحاجة إلى القضاء… ومخطئ من يعتبر في هذه اللحظة المفصلية، أن الحكم الابتدائي ببطلان المؤتمر الاستثنائي لاتحاد الشغل في جويلية الماضي لن يؤثّر على عمل هياكله في التمشّي نحو عقد مؤتمره القادم حتى وإن سلّمنا وأقنعنا أنفسنا وطمأنّاها وهْما أن الحكم الصادر هو «حكم ابتدائي قابل للاستئناف بما يجعله عديم التأثير على قرارات هياكل الاتحاد التي تبقى كلها نافذة وصحيحة ومشروعة» على حد قول بعضهم، فالاستئناف قانونا لا يوقف التنفيذ علاوة على أن السعي لـ«المرور بالقوة» عملية انتحار

وحسنا فعل الأمين العام في أول تعليق له على الحكم القضائي بالقول«لكل حادث حديث.. نحن عقدنا مجلسنا الوطني في ظل حكم قضائي ونواصل اليوم العمل في ظل احترام مؤسسات القضاء واحترام أحكامها» وأضاف أن هياكل المنظمة ستجتمع وتتخذ الخيارات المناسبة

وعلى هذا الأساس، لم نكن فعلا بحاجة إلى القضاء… كنّا مطالبين بالتوفيق والانسجام بين ما نقوله ونقدّمه لشعبنا من رؤى وطنية وتقدمية وديمقراطية وما نمارسه داخل المنظمة، ومثلما نقول في الشارع التونسي أن الشرعية الانتخابية يمكن أن تهترئ وأن تعزّزها شرعيات أخرى، فنفس القاعدة تنطبق على النقابيين الذين صوّتوا للإجماع وللماكينة، أو بالنسبة إلى أهمية فكرة التداول على المسؤولية، أليست هذه النقطة مربط الفرس في أزمة تسيير البلاد وواحدة من محركات ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة؟

إن قوة القيادة هي في تحويل الأخطاء ولحظات الانكسار إلى فرص لإنقاذ الحياة وإيقاظ الهمم ومراجعة المواقف غير الصائبة أو عديمة وقليلة الفائدة، لذلك لا حرج ولا مانع أخلاقي وسياسي وقانوني وتنظيمي في الجنوح إلى طيّ صفحة الخلاف والنأي بالمركب عن الاصطدام بصخور قد لا تغرقه في الإبان لكنها ستحدث شروخا يصعب كي لا نقول يستحيل رتقها قبل الوصول إلى الشاطئ

إن الأفكار عديدة والحلول كثيرة لقطع الطريق أمام كل ما من شأنه أن يُضعف أو يربك أو يخدش أو ينال من دور الاتحاد العام التونسي للشغل، كتأجيل المؤتمر الوطني إلى حين خصوصا في ظل الوضع الوبائي المنذر بالخطر، وترحيل التنقيحات المتّصلة بالقانون الأساسي والتي نجد في بعضها الكثير من الوجاهة إلى مؤتمرات قادمة، ومثل هذه الخطوات والمراجعات الجدية والثورية والمسؤولة ليست «حراما» وليست انهزاما أو انتصارا لهذا الطرف أو ذاك بل هي عملية تصويب للبوصلة وتحريك للعزائم والإرادات الصادقة في منظمة تضم مئات الآلاف من النقابيين ومن القادة القادرين على تحمّل المسؤولية ومواصلة السير على نهج المؤسسين وفي طليعتهم الشهيد الخالد الزعيم فرحات حشاد الذي لا نخال أنه «مرتاح في قبرو» وهو يرى خيمة التونسيين بهذه الحال عشية الذكرى السنوية لاغتياله ذات 5 ديسمبر1952

بقلم :مراد علالة