شَارْلِي هِبْدُو وكنيسة نيس وما بينهما

من بين ردود الفعل حول اغتيال أستاذ التاريخ الفرنسي بعد استعماله، خلال درس حول حرّية التعبير، لصورة كاريكاتورية ساخرة للرسول محمد نُشرت في صحيفة « شارلي هبدو » الهزلية ، استوقفني رد فعل أحدهم حين قال ما معناه : « لماذا نعتبر من يسخر من السود عنصريّا ونعتبر السخرية من الإسلام، دين مليار ونصف من البشر، من قبيل حرية التعبير ؟ فهل رأيناهم يسخرون من دينهم ؟ »، مُضيفا بأن : الرئيس الفرنسي عدو الإسلام يجب محاربته

أريد هنا الردّ على ردّ الفعل هذا بالتعرّض إلى جانبين 

الجانب الأول يتعلّق بما يُسمّى بالمسّ من المُقدّسات. ويعيب المسلمون على المسيحيين بأنهم لا ينتقدون إلّا الرسول محمد. وهنا لا بدّ من ذكر بعض الأمثلة لدحض هذا الادعاء. ففي سنة 1988، صدر في أمريكا شريط سينمائي يحمل اسم « آخر إغراءات المسيح »، يصوّر فيه صاحبه، من وحي خياله طبعا، الأفكار التي كانت تخالج ذهن عيسى في الساعات الأخيرة من حياته وهو مصلوب، حيث أظهر، حسب الشريط، ندمَه على قضاء حياته في التعبّد بدل أن يتمتّع بمتاع الدنيا مع عشيقته ماري مادلان. وعلى منوال هذا الفيلم، نسج مخرج برازيلي، سنة 2019، شريطا سمّاه « أوّل إغراءات المسيح »، رسم فيه، حسب خياله طبعا، طفولة المسيح وقد أظهره طفلا غبيّا ذا ميولات مثليّة. هذا الشريط أثار طبعا غضب المسيحيين المُتشدّدين الذين لا يقبلون بالإبداعات الفنيّة ويرون في الشريطين، وخاصّة في الثاني، مسّا من « المقدّسات الدينية ». لكنهم لم يُطلقوا رصاصة على أحد، ولم يمسّوا أحدا بأذى جسديا، ولكنهم دافعوا عمّا يعتبرونه مُقدّسا بكل تحضّر، وقاموا بتوزيع عريضة في كل أصقاع العالم جمعت خلال حوالي سنة كاملة مليون و300 ألف توقيع يُطالبون فيها بمنع الشريط. واستجابت المحكمة لطلبهم ومنعت المنتج من توزيع الشريط. لكن سرعان ما نقضت المحكمة العليا البرازيلية هذا الحكم مُعلّلة قرارها بأنه « لا يُمكن اعتبار شريط افتراضي هزلي قادرا على إضعاف قيم العقيدة المسيحيّة التي تمتدّ جذورها إلى أكثر من 2000 سنة ». وبقي الشريط مُتوفّرا في السوق، وبقي مُنتجه ومُخرجه وكل من شارك فيه يعيشون حياةً عاديّة دون أن يُهدّد أرواحَهم أحدٌ

في المقابل، وبعد نشر صحيفة « شارلي هبدو » الفرنسية صورا هزلية فيها استهزاء بالرسول محمد سنة 2015، هجم كمندوس إسلامي على مقر الصحيفة مُسلّحا بالكلاشنكوف ليقصف كل من كان في مقر الصحيفة. ولقد مات في هذا الهجوم 12 شخصا وجُرح 11 آخرون، ومن بين الضحايا من لم تكن له أية علاقة بمحتوى الصحيفة مثل السكرتيرة والمحاسب والحارس

السخرية الهزلية من الأديان ومن الرسل ليست إذن مُوجّهة فقط إلى الإسلام وإلى رسوله، وإنما إلى أديان أخرى ورسل آخرين. لكن ردود الفعل هي التي تختلف بين متديّنين مُتحضّرين ومُتديّنين همجيّين، رغم أن المسلم يُفترض أن يكون مؤمنا بكل الرسل، بينما أن غير المسلمين لا يُؤمنون بالإسلام ولا برسوله، ولكننا لم نُشاهد مسلما واحدا ندّد ولو بكلمة بالسخرية من الرسل الآخرين

ذلك أن تعصّب الإسلاميين وصل إلى حدّ تأليه الرسول، ناهيك أن الحملة العثمانية تحمل شعار « إلا الرسول » وليس « إلا الله ». في حين أنه جاء في الآية « قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ». فهل يُمكن أن يأمل ممثل سينمائي القيام بدور الرسول محمد في عمل سينمائي دون أن يُذبح في اليوم الموالي، حتى وإن كان الشريط لا يحتوي إلا على تمجيده ؟
لذلك، فإن المسلم الذي يؤمن ب »لكم دينكم ولي دين » و »لا إكراه في الدين »، كان مُحترما أينما حلّ في العالم طيلة القرون الأخيرة. و »المسلم » الذي أصبح، منذ بضعة عقود، أي منذ ما يُسمّى ب »الصحوة الإسلاميّة » المتاجرة بالدين، شاهرا سيفه مُقتنعا بجهله وبعنفه أضحى كائنا مُخيفا إرهابيّا حطّم صورة الإسلام والمسلمين في العالم

ويكفي هنا أن نتساءل من الذي أساء أكثر إلى الرسول ؟ هل هو الأستاذ الذي عرض على تلاميذه صورة كاريكاتورية تتهكّم على الرسول ليُناقشوا موضوع « حرية التعبير »، وهو درس لم يكن يعلم بفحواه غير الذين حضروه ؟ أم ذلك الذي ذبحه وأعطى صورة للعالم بأسره بأن دين محمد هو دين العنف والإرهاب والجهل والهمجيّة ؟ بين فعلتي الأستاذ وذابحه، من الذي خرج للعالم بصورة المجرم ومن خرج بصورة الضحية ؟
أما الجانب الثاني بخصوص ردود الفعل فيتعلّق بالموقف الفرنسي الذي عبّر عنه الرئيس ماكرون والذي قال فيه بالخصوص بأن الإسلام يعيش أزمة وبأن فرنسا ستدافع عن نفسها ضد التطرف الإسلامي. هذا الموقف هو الذي أدّى إلى الدعوة إلى مقاطعة فرنسا، دولة ولغة وحضارة واقتصادا. وهي دعوة تبنّاها بالخصوص، وبكل حماس، الرئيس التركي أردوغان، صاحب الرقم القياسي العالمي في سجن السياسيين، والمعروف بتعصّبه الديني، وبمساعدته للدواعش وللإرهاب في العالم

فأما بخصوص أزمة الإسلام، فالمقصود بها هو أزمة المسلمين، لأن هؤلاء هم الذين اختلطت بهم السبل في العقود الأخيرة. ولئن كان من البديهي أن تاريخ المسلمين مليء بالخلافات الدامية منذ عهد الخلفاء الذين اغتيل منهم ثلاثة من بين أربعة، كما اغتيل حفيدا الرسول، فإن المسلمين خفّت خلافاتهم في القرون القليلة الماضية بعد أن استقرّ بينهم إسلام بعيد عن السياسة وقريب من الاعتدال على غرار الإسلام الزيتوني، إلى أن طلع علينا « إسلام » سيد قطب وحسن البناء ومحمد ابن عبد الوهاب الذي تبنّاه يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي ورجب طيب أردوغان، فانتشر العنف والتكفير والإرهاب. وهو ما أربك الإسلام والمسلمين. ومن ثمّ، فإن المسلم الذي كان يُنظر إليه في باريس على أساس شهاداته العلمية وكفاءته المهنية، أمسى محل شبهات إرهابية مُبرّرة

وأما فيما يتعلّق بدفاع فرنسا عن نفسها من المسلمين الإرهابيين، فلا بدّ من التذكير بأن فرنسا دولة لائكيه رسميّا منذ ما يزيد عن القرن. ولقد قاوم كل من حكم فرنسا منذ سنة 1905، تاريخ الإقرار الرسمي للائكية الدولة، أي شكل من أشكال محاولات الهيمنة الدينية على الحياة السياسية. وموقف ماكرون لا يختلف في شيء عن مواقف أسلافه في هذا المجال. وما تذكيره اليوم بالدفاع عن مدنية الدولة الفرنسية إلا نتيجة للتهديدات الإرهابية التي يعيشها شعبه باسم الدين، خاصّة وأن الدين المعني هنا ليس دين الفرنسيين الأصليين الذين يُمثّلون الأغلبية الساحقة لشعبه. فعندما يُمنع عن التلميذة أو الموظفة حمل صليب على رقبتها نقول بأن ذلك أمر يخص الدولة الفرنسية لا دخل لنا فيه، أما إذا مُنع لباس النقاب من طرف تلميذة أو مُوظّفة، نعيب على الفرنسيين عدم احترام حرية اللباس

طبعا، سيُوجّه لنا بعض القراء تهمة التبعيّة للمستعمر، وهو كلام مردود على أصحابه لأننا نعبّر هنا عن أفكار موضوعية وعن مبادئ كونية. فالماركسي ليس عميلا لألمانيا لأن كارل ماركس ألماني، والمسلم ليس عميلا للمملكة السعودية لأن الرسول محمدا وُلد في مكّة، والمُتشبّع بفكر الأنوار الذي أسس له روسو ومنتاسكيو وفلتير ينتمي إلى مدرسة فكرية عقلانية تحررية، وهي مدرسة كونية وليست حكرا على الدولة الفرنسية

منير الشرفي