حكومة المشيشي ترفع سقف الرّهان على زيارة واشنطن أكثر من اللزوم

*ردة فعل وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار غير صائبة حين يتهم « البعض » بالعمل على عرقلة الحكومة حتى لا تنجح في تعبئة الموارد ويعتبر أن المحتجين والمعتصمين والمضربين : قاعدين يخدموا على تحطيم البلاد

* لا شيء يبرّر إقصاء أو غياب أو تغييب رئاسة الجمهورية في الوقت الذي تجلس فيه تونس في مجلس الأمن وترأس الجامعة العربية ومن المفترض أن توظف كل العلاقات الثنائية والجماعية لخدمة مصالح تونس والتونسيين

* غياب أهم طرف اجتماعي في البلاد وهو الاتحاد العام التونسي للشغل في مسار الإعداد يضعف الآمال في تسويق « برنامج الإصلاح الاقتصادي » وتمريره بمرونة في الداخل والخارج

*****

لا حديث هذه الايام إلا عن زيارة رئيس الحكومة هشام المشيشي الى العاصمة الأمريكية مطلع الأسبوع القادم بمناسبة «اجتماعات الربيع» لسنة 2021 لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي مناسبة لساكن القصبة أيضا للقاء مسؤولين في الادارة الأمريكة في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين وفق ما رشح عن أهداف الزيارة

ويبدو أن الحكومة تراهن على «رحلة واشنطن» وربما تضعها في منزلة تحدي البقاء والوجود بالنسبة إليها، بل إن مستقبلها يتوقف على مخرجاتها التي يجب أن تكون كفيلة بإسكات الأصوات المشككة في الحكومة والمنتقدة لكفاءتها وخاصة لبرنامج عملها الذي لم تتضح بعد خطوطه الكبرى على الأقل فما بالك بالتفاصيل

وليس ضروريا التوقف كثيرا عند الظروف التي تجري فيها الزيارة، فالأزمة الشاملة على أشدّها والقاصي والداني على بيّنة من عمقها وللأسف من استحالة زحزحتها بيسر في ظل تعنت الجميع واختيار نهج الهروب إلى الأمام والمراهنة العبثية على عاملي الزمن والطبيعة لإفراز «فائز» وحيد في الحرب بين أركان منظومة الحكم ويغيب عن الجميع أنه لن يكون ثمة فائز في حال استمرار هذه الحرب فالجميع منهزمون وتونس وشعبها هم أكبر الخاسرين

ولعل هذا الواقع هو الذي يغذّي التخوفات من نتائج الزيارة حتى قبل إنجازها فهي في نهاية المطاف زيارة «تفاوض» والتفاوض صراع مصالح وأجندات يفترض الندّية والصلابة والحكمة والوجاهة في الأطروحات فأين نحن من كل هذا؟
نقائص بالجملة وأخطاء بالتفصيل

إن الزيارة تأتي كما اسلفنا في سياق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاخلاقية المعقّدة وفي سياق إعداد منفرد وأحادي سيعود علينا بالوبال

صحيح أن الحكومة بادرت بعقد سلسلة لقاءات تحت يافطة «لقاءات بيت الحكمة» منذ 17 مارس الماضي جمعت عددا من الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين والمستثمرين ورجال الأعمال لتقديم «برنامج الإصلاح الاقتصادي» الذي سيعرض على شركاء تونس الدوليين لكن سرعة العمل وغموض نتائجه وغياب أهم طرف اجتماعي في البلاد وهو الاتحاد العام التونسي للشغل يضعف الآمال في تسويق هذا البرنامج وتمريره بمرونة في الداخل والخارج علاوة على تغييب رئاسة الجمهورية الملفت للانتباه بالنظر الى الصلاحيات الدستورية على الاقل 

وهنا لا مناص من التأشير الى أن الأزمة في شقها السياسي والأخلاقي لا تبرّر إقصاء أو غياب أو تغييب رئاسة الجمهورية في الوقت الذي تجلس فيه تونس في مجلس الأمن وترأس جامعة الدول العربية ومن المفترض أن تتظافر الجهود لتوظيف كل العلاقات الثنائية والجماعية لخدمة مصالح تونس والتونسيين

وليس أدلّ على ما نقول مما جاء على لسان سمير ديلو النائب والقيادي في حركة النهضة الإخوانية و العمود الفقري للائتلاف المساند للحكومة والذي كان صريحا بخلاف إخوته في ظهوره الإعلامي قبل يومين باذاعة «موزاييك آف آم» الخاصة حيث اعتبر أن : ذهاب رئيس الحكومة هشام المشيشي إلى واشنطن بهذه الطريقة مخجل، خاصة وأن تونس فقدت مصداقيتها لدى صندوق النقد الدولي على خلفية الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد

إن تخوف من هو في الحزام أو الوسادة الحكومية هو نفسه الذي يشعر به الطيف المعارض وخصوصا المواطن العادي لذلك نستغرب ردة فعل وزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار علي الكعلي غير الصائبة أمس على سبيل المثال حين يدعو عبر اذاعة «اكسبراس أف أم» الخاصة الى الكف عن بث ما اعتبرها «مغالطات» والقول أن الحكومة ذاهبة لتعود بـ «قفة فلوس» وان من يروّج لمثل هذا يتجاهل الأوضاع العالمية ومسار الاتفاقيات الماضية 

أكثر من ذلك، اتهم الوزير «البعض» بالعمل على عرقلة الحكومة حتى لا تنجح في تعبئة الموارد بتعطيل مشاريع القوانين لأسباب «سياسية وبلا معنى» ولم يستثن المحتجين والمعتصمين والمضربين الذين هم « قاعدين يخدموا على تحطيم البلاد» وتوجه للجميع بنبرة تحدّ مشبّها الحكومة بقصبة الماء التي تميل ولا تنكسر

إنه من العجب العجاب أن يتحدث وزير بهذا المنطق في الوقت الذي تتضاعف فيه المخاطر أمام التونسيين، ومن العجب العجاب أيضا أن يراهن رئيس الحكومة في تونس بعد 2011 ، بعد ثورة الحرية والكرامة أو لنقل بصراحة ملحمة 14 جانفي غير المكتملة، على سفراء الدول الأجنبية لحشد الدعم لزيارة واشنطن

خطوط حمر مرة أخرى

أجل لقد بدأ ساكن القصبة منذ أيام وبعد لقاء وزير المالية والخارجية في القصبة في ماراطون من اللقاءات مع السفراء، سفير الولايات المتحدة الأمريكية، سفير الاتحاد الأوروبي، سفير فرنسا، سفير ألمانيا، سفير كندا، سفير ايطاليا.. وتناولت اللقاءات «الوضع الصحي في ظل انتشار وباء كوفيد-19 وتقدم عمليات التلقيح والتزود باللقاحات» و«تنسيق الجهود للتوجّه للتفاوض مع صندوق النقد الدولي ببرنامج اقتصادي توافقي وتشاركي مع كل المنظمات الوطنية».. ومن جانبهم عبّر السفراء «عن الدعم المطلق لمجهودات الحكومة التونسية…» وشدّدوا على «الوقوف مع تونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي..» وقالوا ان : تونس ستتجاوز هذه الوضعية الاقتصادية الصعبة

هكذا طمأنتنا الحكومة عن فحوى اللقاءات وآفاق الزيارة ولسان حالها يقول أن الذهاب إلى واشنطن والتفاوض مع الدوائر المالية العالمية هو الخيار الوحيد للخروج إلى الأسواق العالمية وإتمام الميزانية وسداد الديون والانطلاق في الإصلاحات الكبرى المتعلقة بالجباية والدعم والمؤسسات العمومية

ولا يتوانى أنصار وداعمو هذا التوجه في الترويج لمقولة أن المراهنة على الخارج وعلى صندوق النقد بالخصوص «شرّ لا بد منه» وهي مقولة قابلة للنقاش في ظروف أخرى وبمعايير مخالفة تنطلق من حقيقة واضحة وهي أنه لا وجود في التاريخ الحديث لدولة صلُح حالها بالتعويل على الدوائر المالية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي بيد أن ما يجب التأكيد عليه في تقديرنا إنقاذا لما يمكن إنقاذه هو أن الحكومة مطالبة بحفظ الوطن والمواطنين

بعبارة أخرى، مقدرات الوطن وثرواته ونقصد بها أساسا أجياله القادمة المكبّلة بالديون، ومؤسساته العمومية المنهكة وتجربته الديمقراطية أيضا –رغم تعثرها- وسيادته واستقلال قراره هي خطوط حمر تمنع أيا كان من «التسوّل» باسم تونس، كذلك الأمر بالنسبة إلى المواطنين الذين ضاعف وباء الكورونا من معاناتهم وابتلوا بمنظومة حكم غلّبت أهواءها الخاصة على المصلحة العامة فتفاقم الفقر وانهارت القدرة الشرائية واستشرى التشاؤم واليأس من المستقبل وهذه حقيقة أيضا نلمسها في الفضاء العام، في هؤلاء المتحدّين للبروتوكول الصحي، وهؤلاء المحتجين والمضربين عن الطعام هنا وهناك، وهؤلاء المحبطين الذين يلقون بأنفسهم في البحر لهثا وراء وهم الهجرة إلى الجنة في شمال المتوسط هربا من جهنم في جنوبه، وهؤلاء الذين غرّر بهم تجار الدين فاستهدفوا تونس في الداخل والخارج عشية زيارة رئيس الحكومة نفسه إلى واشنطن بالذات وهذا ما يتوجب على الجميع إدراكه والتفاعل معه من تحديات

بقلم مراد علالة