جوائح على كل المستويات تهدّد الدولة والمجتمع

تحسّبا لمن سيقول أن الكلام وقع تحريفه أو أُخرج من سياقه، فإن أكثر من شاهد من أهلها كما يقال اعترف هذه الأيام بأن الخطر الذي يهدّد الدولة التونسية هو محاولات ضربها من الداخل، وهي بطبيعة الحال محاولات تفتح الطريق لـ «الخارج» لإملاء الشروط ووضع القيود والاستثمار في الأزمة العميقة التي تضرب بلادنا منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة والتي تفاقمت بمرور السنوات وخصوصا بعد انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والتشريعي

وقد تفاجأ البعض، أو لنقل صراحة، أنه تظاهر بالمفاجأة بعد الاطلاع على ما طلبته المسؤولة الأمريكية من حكام تونس عقب لقاء رئيس الحكومة حيث أكدت نائبة وزير الخارجية الأمريكي خلال اللقاء الافتراضي الذي أجرته مع رئيس الحكومة الجمعة 25 جوان الجاري على «أهمية تركيز المحكمة الدستورية والعمل على ضمان الاستقرار السياسي وإنجاح المسار الديمقراطي»، فهلّل البعض على غرار القيادي في النهضة الإخوانية عميل المخابرات الأمريكية و باعث مركز الإسلام والديمقراطية في واشنطن، واستاء البعض الآخر أغلبه لغاية في نفس يعقوب للأسف

هي ليست المرة الأولى التي يتدخل فيها طرف خارجي في الشأن الوطني وهذه النقطة بالذات المتعلقة بالاستقرار السياسي وتركيز المحكمة الدستورية وردت تقريبا في كل التدوينات التي نشرتها الرئاسات الثلاث على صفحاتها الخاصة في الفايسبوك خلال الأشهر الماضية عقب كل لقاء مع سفير أجنبي وما أكثرها وخصوصا سفراء الدول النافذة في الاتحاد الأوروبي وكذلك سفير الولايات المتحدة الأمريكية

وما كان لطرف خارجي مهما علا شأنه أن يتطاول على بلادنا وأن يسمح لنفسه بإعطاء التوجيهات أو التعليمات أو النصائح أو الدروس لو كان على هذه الأرض من يتعاطى معهم بالندية الكاملة والتمسك باستقلال القرار الوطني والاستناد إلى جبهة داخلية قوية واستقرار اقتصادي واجتماعي حقيقي فيه مقوّمات العيش الكريم وفيه عدالة اجتماعية وتقاسم للتضحيات ووضوح للرؤى بالنسبة الى المستقبل.
وللأسف ايضا لم تخرج اعترافات المسؤولين عن منطق المزايدة وتسجيل النقاط دون تقديم قراءات محيّنة لواقع الحال ودون المبادرة بتقديم الحلول العاجلة وكأنهم ليسوا على عجل من أمرهم أو كأننا في ظرف عادي لا تهدّد فيه الكورونا حياة البشر ولا يعرّي الواقع المتردي للقطاع الصحي ولا يفضح عجز «أولي الأمر» في قيادة الحرب على هذا الوباء

لقد كان رئيس الجمهورية محقّا حين أسرّ لضيفه رئيس حركة الشعب أول أمس أن الخطر الذي يهدّد الدولة هي محاولات ضربها من الداخل وتعطيل مرافقها العمومية الأساسية من قبل منظومة خفية تتحكم في البلاد منذ 2011 لم تسقط بعد حسب رأيه، لكن الغريب هو أن يختزل سيادته «القضية الأساسية اليوم في تونس في الدستور الذي وُضع في إطار صفقات وهو قائم على التعطيلات» وينادي بضرورة الاتفاق على المحاور والسياسات التي سيتم اتباعها قبل الدخول في حوار وطني رافضا بالمناسبة الحلول الوسطى والوساطات، وهنا يتساءل المرء بداية عن المشروع الذي في جعبته وثانيا عن قدرة التونسيين على الصمود إلى أن تأتي «اللحظة» المناسبة للحل الشامل ولا تفتك بهم الكورونا؟

إن وباء الكورونا يهدّد الدولة اليوم، دولة لم تستطع بعدُ توفير اللقاح للشعب ولم تستطع توفير الاوكسيجين وأسرّة الإنعاش وسيارات الإسعاف بل حتى مجرد الفضاءات المناسبة لاستقبال المرضى في عديد الجهات وكأنها فوّضت الأمر للسماء

ولا ننسى هنا الانهيار الاقتصادي الذي دفع بالحكومة وحزامها البرلماني والسياسي الى إعلان الحرب على بطون التونسيين بدل التصعيد في الحرب على الكورونا وذلك بإقرار زيادات مشطة في اسعار أكثر من مادة اساسية والتلويح بالذهاب الى ابعد من ذلك برفع الدعم تحت يافطة الترشيد ومسايرة اسواق النفط العالمية وغيرها من الذرائع والحجج التي لم تعد تنطلي على أحد، ويستمر فوق كل ذلك العجز في تأمين المرافقة الاجتماعية لـ «ضحايا الوباء الصحي» وإيجاد الحلول للمحالين قسرا على البطالة والشركات الصغيرة والمتوسطة التي تُغلق الواحدة تلو الأخرى مع تواصل نزيف الديون و«التسول» من هنا وهناك

إن صراع الديكة بين القصور هو في النهاية تعبير عما وصل اليه المشهد السياسي والفعل السياسي من تأزم وانعدام ثقة وترذيل واستهتار بانتظارات عموم المواطنين لدرجة صار فيها لقاء المسؤولين في الدولة إنجازا بحد ذاته لمنظومة الحكم والحال أن الأصل في الأشياء أن يسهر حكامنا على خدمة مواطنيهم أو ناخبيهم على الأقل بشكل طبيعي

وليس أدل على أزمة الثقة والفجوة العميقة بين «المسؤولين» والشعب، ما يبتدعه التونسيون اليوم من تعليقات طريفة وهزلية على أداء حكامهم الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على «التوضيح» و«التصويب» و«التدقيق» لكلام «عربي» فهمناه كما أرادوا إفهامنا في البدء قبل أن يراجعوا حساباتهم، وها هو الشيخ راشد الغنوشي رئيس البرلمان ورئيس النهضة مثلا «يدين محاولات تحريف كلامه» المتصل بمخرجات لقائه برئيس الجمهورية ونفس الأمر مع هذا الأخير الذي استهجن «الأكاذيب والادعاءات الزائفة والباطلة» المتعلقة بتعليقه على «الحوار اللاّوطني» قبل ايام

في غضون ذلك تفاقم أيضا الوباء السياسي في رحاب «سيّد نفسه» ومن يدري قد نحتاج يوما لـ «شرطة الآداب» لفض «عركة» نواب شعب نزلوا بالخطاب إلى أبعد من الحضيض

هي جوائح على كل المستويات، وباء الكورونا، وباء السياسة ووباء الانهيار الاقتصادي الشامل، جوائح تهدّد الدولة وتنذر بقيامة شعب لم يعد له ما يخسره ولم يعد لاستقالته ما ينفعه

بقلم: مراد علالة