النهضة تجاهد لإنقاذ الخياري، «الرؤساء» يحصّنون «دولهم» والبلاد تنزف… جميعكم في حالة تلبّس

لا حديث اليوم في تونس إلا عن الأوبئة التي أصابت البلاد والعباد.. الكورونا تفتك بالعشرات كل يوم، ومن لم تقتله الجائحة أو تشلّ حركته إن جاز القول، يتلقّفه الفقر والحرمان واليأس وقلة ذات اليد ويصبح حقّه في الحياة «غير مضمون».. طبقة سياسية مفلسة يروّج بعضها لإفلاس الدولة عن قصد وبعضها الآخر من باب تبرئة الذمّة وتسجيل النقاط.. منظومة حكم متعثّرة، يتدافع أركانها ويتنازعون الصلاحيات في وقت تعجز فيه الدولة وتتعثّر في تطبيق القانون، سواء بالأدوات المدنية أو العسكرية لمجرد جلب مواطن ارتأت مؤسسات في الدولة نفسها أنه موضوع «جلب» باعتباره في : حالة تلبّس

الجميع اليوم في «حالة تلبّس»، أجل وعلى رأس القائمة هؤلاء المضطلعون بأعباء الحكم وفي ذيل القائمة هذا الشعب الذي لم يصوّت لنفسه في اللحظة الحاسمة بخلاف ما أوصاه شاعر تونس الراحل محمد الصغير أولاد أحمد، ولا نريد هنا العودة الى الحديث الضعيف : كما تكونوا يولّى عليكم

اليوم، «سيد نفسه» في حالة تلبّس.. مجلس نواب الشعب الذي يضم 217 نائبا وعلى رأسه رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي الذي أقام «ديوانا رئاسيا» تحت قبة البرلمان وحصّن به «دولته»، يعهد للكاتب العام للمؤسسة التشريعية توجيه مراسلة إلى وزير الدفاع الوطني لـ «جلبه» وذلك «للاستماع إليه حول مسائل تتعلق بحيادية المؤسسة العسكرية وحول تدخل القضاء العسكري وإصداره برقية جلب في حق النائب راشد الخياري وعدم الاعتراف بتمسكه بالحصانة» وفق النائب الثاني لرئيس المجلس طارق الفتيتي والأغرب من كل هذا تزامن جلسة الاستماع مع جلسة عامة مبرمجة مسبقا ليوم الثلاثاء القادم

وفي باب نشر الغسيل الذي صار مألوفا في المشهد السياسي، تسبح المراسلة الموجّهة إلى وزارة سيادية في الفضاء الافتراضي وفي مواقع التواصل الاجتماعي وهو أمر أثار استغراب الفتيتي وآلمه وخصوصا النقطة الأخيرة فيها وهي الأخطر حسب رأيه : من أمضى المراسلة ؟ ويجيب ويتساءل في نفس الوقت : هو السيد الكاتب العام عن رئيس المجلس وبتفويض منه، فما هو التفويض؟ التفويض في حق الإمضاء يُعطى لتسيير عمله داخل الإدارة في علاقة بمنظوريه في الكتابة العامة أو المراسلات العادية لكن أن يمضي السيد الكاتب العام عن مراسلة إلى عضو حكومة فهذا لا يستقيم لأنه لا صفة له.. النواب أنفسهم ورؤساء اللجان أو أعضاء مكتب مجلس نواب الشعب لا يمكنهم ذلك إلا عن طريق السيد رئيس المجلس

ليس ذلك فحسب، «سيد نفسه» سخّر على ما يبدو نفسه لمتابعة «قضية النائب راشد الخياري».. اجتماع عاجل لمكتب المجلس مباشرة عند سماع خبر «بطاقة الجلب» ثم اتصال من «الرئيس» بوزير الدفاع الوطني لاستفساره عن سبب إصدار البطاقة من القضاء العسكري في حق نائب اعتصم كتابيا بحصانته رغم ان الوزير أكد أن الاجراءات التي اعتمدها القضاء العسكري تستند الى حالة التلبس وبان المعني بالامر لم يستجب لطلب القضاء العسكري في الاستماع اليه وفق القانون الذي ينص ايضا على استشارة المجلس في صورة الاعتصام بالحصانة

إن هذه التفاصيل لن تزيد الا في اهتراء صورة البرلمان ورفع منسوب عدم الثقة في سكانه أمام ما يكابده التونسيون من مخاطر ومعاناة
إننا في باب تحميل المسؤوليات دائما، لا نعفي حركة النهضة ومن لفّ لفها من المسؤولية في ما نحن فيه عموما، فهي في «حالة تلبّس» ولا نعلم صراحة ما الذي يجعلها تغرّد خارج السرب وتتخذ من قضية راشد الخياري معركة خاصة تجاوزت في التعبير عن انخراطها فيها الكتلة التاريخية التي انتمى اليها الرجل وصعد بفضلها الى قصر باردو

ونتذكر جيدا أن «التسجيل» الذي يمثل مضمونه دليلا على حالة التلبس كما تقول الجهة القضائية روّجه صاحبه في نفس اليوم الذي تواترت فيه انتقادات النهضة لرئيس الجمهورية في علاقة بمضمون خطابه بمناسبة الذكرى 65 لانبعاث الأمن الوطني والتزامن لا يحتاج لذكاء كبير لبيان «الانسجام» في المواقف بين هذه الاطراف

الأغلبية النيابية إذن وهي في نفس الوقت الحزام السياسي للحكومة في وضع لا تحسد عليه، ملتبسة ومتلبسة وهي بين المطرقة والسندان، بين نائب له «مكانة رمزية» ضمن الحزام ووزير في وزارة سيادية في الحكومة المسنودة وهذه في حد ذاتها أحجية ولغز مشفّر يعسر فك طلاسمه الآن

إنها قضية محرجة للبرلمان كما أسلفنا بقدر إحراجها للحكومة ولرئاسة الجمهورية وهي تعكس مدى عمق الفجوة بين مكونات منظومة الحكم من جهة ومن جهة ثانية مدى التأزم الأخلاقي الذي يعصف بمسار ومصير الجميع

لقد كان رئيس الجمهورية محقّا ربما في بداية كشف المستور بعد سنة ونيف من ولوجه لقصر قرطاج لكنه استنزف كثيرا من الجهد والوقت وأنهكنا باستعمال «المبني للمجهول» وعدم التجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها وكشف «الأطراف» التي تتربص بتونس وبتجربتها الديمقراطية وبإرادة شعبها كما أنه لم يتفاعل بالشكل المطلوب مع الطيف المدني والسياسي الذي راهن عليه ومد ايديه له لذلك نراه في دائرة المسؤولية اليوم لذلك لسنا نغالي حين نقول أن : جميعكم في حالة تلبّس

بقلم مراد علالة