الكتاب سبيلنا إلى مقاومة العنف

على صدى معرض تونس الدولي للكتاب من جهة وتحت وقع ظاهرة العنف التي تجتاح بلادنا من جهة أخرى نطرح سؤالا حول دور الكتاب في مقاومة العنف، والكتاب هنا هو ذلك الشيء الذي يحمل إلينا المعارف والثقافة والأدب، الكتاب بما هو قراءة وتفاعل مع أفكار الآخرين واستفادة من معلومات متنوعة وتذوق لجماليات فنون الأدب وتهذيب للسلوك وارتقاء بالأحاسيس وإثارة لمشاعر إنسانية واستعادة للذكريات وعقد للصلات بين الأجيال وبين الشعوب والثقافات. كان الكتاب بالنسبة إلى جيلي أحد أهم وسائل الترفيه، وكانت آنذاك قليلة وشحيحة بالنسبة إلى الأغلبية من عائلات وفيرة عدد الأبناء يهمّها توفير رغيف الخبز أكثر من توفير كتاب. وكان الأطفال أنفسهم في كثير من البيئات يشاركون أفراد العائلة العمل من أجل ذلك الرغيف، كان الكتاب نفسه شحيحا ورغم ذلك كنا نطالع، تعلمنا المطالعة في المدرسة وفي المعهد، وفي نوادي الأدب والمسرح والسينما والفلسفة في المعاهد تعلمنا التفكير والنقاش واتسع أمامنا العالم ونحن نشاهد روائع السينما العالمية والعربية وارتقت أذواقنا ونحن نتدرب على أدوار تمثيلية لمسرحيات عالمية كنا قد طالعناها وتناقشنا فيها وتبارينا في محاولاتنا الأولى في الكتابة وتذوقنا أرقى النصوص الأدبية وتبارينا في أنواع الرياضات…ماذا حدث مع تلاميذنا اليوم فلا كتاب يغريهم بالقراءة ؟ ولا ناد يشدهم إلى نشاط يوسع المدارك ويرتقي بالأذواق ويهذب السلوك ويعلم الحوار وتقبل الاختلاف ؟ وماذا حدث لمدرستنا فتخلت عن معظم أدوارها؟ وماذا حل بنوادي الأطفال فهي مهجورة أو تكاد؟ وما الذي أفرغ دور الشباب والثقافة من روادها وحول أكثرها إلى خرب آيلة للسقوط والحال أنها بقليل من العناية وبقليل من التمويلات قابلة لأن تكون أفضل شبكة للتأطير والمرافقة والحماية من العنف بكل أشكاله ؟

إن إعادة الكتاب إلى المراهقين والشبان واستعادتهم إلى الكتاب تقتضي التفكير في استراتيجية تبدأ من صناعة الكتاب الموجه إليهم والمستفيد من التقنيات الحديثة والقادر على إثارة اهتمامهم وعلى توصيل الرسائل التي تقي من العنف وتبث الوعي بمخاطره ، وتنتهي إلى توصيل ذلك الكتاب إليهم ولا نرى مؤسّسة أقدر على ذلك من المدرسة، فلماذا لا نعطي في كل المواد الأدبية والإنسانية الفرصة للتلميذ حتى يتعلم نسبة من البرنامج تعلما ذاتيا عن طريق القراءة المنتجة، فيقرأ التلميذ الكتاب المبرمج ويقيّمه ويناقشه في قسمه مع زملائه ويتبادل معهم الرأي بشأنه؟ لا تقف هذه الاستراتيجية عند المدرسة بل يجب أن تشمل الأسرة كذلك، ونسبة كبيرة من أسرنا مستقيلة للأسف، أو هي تنساق وراء الحلول السهلة فتوفر لأبنائها وسائل التواصل وآلاته وهم في سن لا يسمح لهم بالتمييز بين الغث والسمين وبين النافع والضار من المضامين التي تعرض عليهم، وبما أن هذه الوسائل مغرية فإن أطفالنا وشبابنا كثيرا ما يصبحون مدمنين عليها معرضين عن غيرها بما في ذلك عن الكتاب، لذلك على الأسر أن تستعيد دورها الرقابي والتأطيري والحمائي، عليها أن تحمي أبناءها من طوفان الألعاب العنيفة على النات ومن المضامين التي تدفع إلى العنف دفعا وذلك بأن لا تستسهل تقديم هذه الوسائل إلى أبنائها متى طلبوها، عليها أن تعيد أبناءها إلى الكتاب المصنوع خصّيصا لهم والمراقب من المختصين والخبراء. وبما أن الأسرة نفسها محتاجة إلى التوعية والتأطير فلا بد من التفكير في برامج موجهة في وسائل الإعلام نحو هذه الوظيفة : تأطير الأسر ومدّها بالمعلومات القادرة على تمكينها من كفاءات ضرورية لحسن تأطير أبنائها وحتى تعرف كيف تتعامل مع الحالات غير السوية والميالة للعنف. بل إن هذه الاستراتيجية في حاجة إلى إدماج المجتمع كاملا في مقاومة عنف الأطفال والشباب، والمسؤولية الاجتماعية تبدأ منذ مغادرة الطفل أو الشاب المدرسة أو المعهد لحمايته من محيط أصبح مصدرا لكثير من المخاطر بدءا بخطر المخدرات ومخاطر الاستقطاب الإجرامي أو الإرهابي. إن التكامل بين البيئات الثلاث وترابط أدوارها مقوم في أي برنامج للتصدي لظاهرة عنف الشباب. وكذلك الشأن بالنسبة إلى تكامل أدوار المدرسة والنادي ودور الشباب والثقافة والمؤسسة الإعلامية والترفيهية والنوادي الرياضية، كل مسؤول من جهته إزاء شباب يشعر بانسداد الأفق ونسبة منه تعيش حالة من الإحباط قابلة لأن تنقلب عنفا ضدّ نفسه أو ضدّ الآخرين، وعليها أن تضع معا الخطط للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة وأن تضع الكتاب في قلب هذه الخطط

إن تقارير منظمة الصحة العالمية تثبت أن هذه الظاهرة عالمية لا يكاد يخلو منها بلد أو مجتمع، حتى إن عدد الشبان البالغين بين 10 و29 سنة الذين توفوا بسبب العنف المتبادل داخليا بينهم قد بلغ 199 ألفا سنة 2000، بمعدل 565 قتيلا يوميا، وإلى هذا الرقم المخيف تنضاف أعداد كبيرة من الذين أصيبوا بأضرار بدنية أو نفسية من هذا العنف. ورغم أن الأرقام قديمة وقد تكون ازدادت أكثر فأكثر خلال العقدين الأخيرين فإنها تدق ناقوس الخطر على مسامع الجميع بما في ذلك المنظمات الدولية التي عليها هي الأخرى أن تتحمل مسؤوليتها إزاء مظاهر التفاوت واللاعدالة بين الأمم والشعوب وإزاء ما تعانيه كثير من البلدان من مشاكل اقتصادية تدفع إلى مزيد من العنف وتعطّل كل خطط الإصلاح. إن عالما تحكمه علاقات متكافئة ويسود فيه حدّ أدنى من العدالة وتتفاعل فيه الثقافات وتحدّ فيه سياسات الهيمنة هو الإطار الأنسب لنجاح أي خطة محلية للقضاء على عنف الشباب وعلى العنف المسلط على الشباب، وهو الشرط لفتح الآفاق أمامهم في بلدانهم فلا يندفعون إلى أشكال من العنف هم ضحيتها الأولى مثل الإلقاء بأنفسهم في قوارب الموت طلبا لهجرة قد تمنحهم أملا في بلدان أخرى، أو الانخراط اليائس في عصابات الإجرام والإرهاب

زهية جويرو