الرجال الخطأ، في المكان الخطأ، في الوقت ما بعد الضائع

لا أتصور أننا نُقَدِّرُ حجم التكلفة التي تُرمى على كاهل المجموعة الوطنية، لما يقع تعيين الشخص الخطأ في أي وظيفة كانت وفي أي مجال وأي رتبة! ومقالي هذا دعوة لك أيها القارئ الكريم كي نسبح معا في مجال الرداءة المُعممة في تونس، وأن نَغوص معا في أعماق تداعيات التكلفة الباهظة التي يتكبدها الشعب من جراء هذه التعيينات العشوائية والمبنية على المحسوبية أو الرشاوي من كل الأصناف، وقلة الخبرة، وخاصة إنعدام الوطنية. فمَن يحب وطنه، لا يخون مصالحه ولا يخون أمانة المسؤولية التي قَبِل أن يتحمَّلها

ومثلما كتبت من قبل، يجب تغيير فكرة أو مقولة : « التداول على السلطة » بمبدأ جديد وهو: « التداول على المسؤولية ». لأن السلطة مُغرية والإفراط في إستعمالها وارد في كل لحظة، وفي كل مجال، لكن المسؤولية ليست مُغرية ويتهرب منها الأغلبية ولا يقبلها إلا الوطنيون النزهاء، لولائهم للوطن وحده لا شريك له

وسوف أعطي أمثلة عن خطورة تعيين الأشخاص الخطأ في بعض المجالات، ولك أن تتخيل أيها القارئ المجالات الأخرى وأن تطبق كلامي على مَن هم حولك سواء كانوا وزراء، أو مديري مصالح…إلخ

ففي المجال السياسي، الرجال والنساء الخطأ هم من يُعَينون بدون أن تكون لهم أية خبرة مسبقة في فن القيادية أوفن السياسة ولا حتى إدارة الشأن العام، وهو أضعف الأيمان. فسوآءا رَشحوا أنفسهم أم رَشَّحَهم حِزبهم أو حركتهم، هذا لا يعني بتاتا أنهم سُلِّموا شهادة في الكفاءة لإدارة الشأن العام. الأخطر من ذلك، أن هذا التعيين، يُقنعهم أنهم أصبحوا، بقدرة قادر، لديهم تلك الكفاءة، ويصبحوا يُقنعون أنفسهم أنهم أذكي من منظوريهم، ويفهمون أكثر من غيرهم ولديهم الحلول الناجعة، في حين أنهم لا يمتلكون أبجديات تلك الفنون. وكي يُقنعوا مَن حولهم أنهم تحصلوا على ذلك المنصب عن جدارة وكفاءة عالية، وذلك لإخفاء عَورة جهلهم، فتراهم يبدؤون بنسف كل ما قام به المدير، أو الوزير أو الرئيس الذي سبقهم، ظنا منهم أن الإبقاء على ما هو موجود وتحسينه أو البناء على منواله، هو اعتراف ضمني بعدم قدرتهم على اقتراح ما هو أحسن

وهنا تكمن الكارثة ويبدأ قياس الخسارة والتكلفة لتواجد مثل هذه الأشكال المزَيّفة من المُسيرين للشأن العام. وهذه التكلفة لا تقتصر لا عدم قدرتهم على إيجاد الحلول السياسية والدبلوماسية وغيرها، بل يجب أيضا احتساب كل الفرص الضائعة لتحسين العلاقات الداخلية والخارجية وجلب الاستثمارات والتشجيع على إقامة علاقات سليمة مع دول الجوار مبنية على احترام سيادة الوطن وربط أصول التبادلات التجارية المُربحة التي كانت لتحصل لو عيِّن الأشخاص الأكفاء…خسارة لها تداعياتها على كل المشاريع التي من شأنها النهوض بالبلد على جميع المستويات لما للسياسة من تأثير على الاقتصاد، وعلى غيرها من المجالات

أما في المجال الاقتصادي، فتعيين الأشخاص الخطأ يُمكن أن يخرب كل اقتصاد الدولة، ويهرب كل المستثمرين الوطنيين والأجانب، خاصة لعدم فهم هذا الشخص أن التعقيدات الإدارية المخنقة تنفر أي مستثمر أجنبي كان أم وطني. وبما أن الرداءة لا تَجلِبُ إلا الرداءة، فسوف نجد هذا الشخص يُعين من أقرباءه وأصحابه من هو أكثر رداءة منه، كي يكرر هذا الأخير على مسامعه كل كلمات النفاق والمحاباة التي يريد أن يسمعها. وفي وجود هذه النوعية من المديرين، فلن يتشجع أحد للعمل، وينجر عن ذلك عدم قدرة المجموعة الوطنية على الإنتاج والإنتاجية وخلق الثروة. بل سوف يؤدي كل ذلك إلى انهيار الاقتصاد، مما ينجر عنه ازدياد في المديونية، لأن الاقتراض يصبح الحل الوحيد والسهل لمواصلة مهزلة إدارة الاقتصاد من طرف هؤلاء الفشلة

ويمكن لهذه الفترة أن تطول، طالما وجدت دول ومؤسسات ساذجة، وغبية لمواصلة إقراض هذا النوع من الدول المُدارة من طرف الفشلة، إلى أن يأتي اليوم الذي يستفيق الجميع، ويرفضون إقراض هذه الدولة التي أصبحت تتحصل على ترقيمات مزرية في سلم الترقيم الدولي، منذرة بعدم قدرتها على سداد ديونها في الآجال المحددة.. وحين إذا يُعلن إفلاس الدولة، وما يتبعها من تداعيات وجوب رضوخها لوصاية وحماية المؤسسات المالية الدولية والدول العظمى بكل ما لذلك من تداعيات على جميع المستويات، ولك أن تتخيل أيها القارئ كل السيناريوهات المحتملة

أما في المجال الاجتماعي، فالمسألة لا تقل خطورة، خاصة لما تتلازم الرداءة مع الفكر المتزمت الظلامي، فهنا تكمن الكارثة والتكلفة النفسية والوجدانية على وعي كل أفراد المجتمع، والتي لا تقل أهمية عن التكلفة المالية والاقتصادية. فعلا هذه النوعية من الأشخاص التي تتصور أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وتَستقِي شرعيتها من ظنها أنها وصية على الدين، كما تفهمه هي، وعلى تطبيقه مثلما يحلو لها. ناسية أو متناسية أنه من ركائز الدين الإسلامي هو أنه لا أحد وصي على الآخر، علاوة على انه « لا إكراه في الدين »، و: لكم دينكم ولي ديني

والأمثلة في تونس عديدة، فمثلا، لما يكون أحدهم رئيس بلدية، فهو سوف لا يتوانى عن خرق القانون برفضه عقد قران تونسية على شاب غير مسلم، ضاربا دستور البلاد عرض الحائط. ولما يكون هذا الشخص ينتمي للمجال الصحي، فهو لن يتوانى أيضا في خرق القانون كأن يرفضه أن تتقدم امرأة، لا ترغب في الإنجاب، مهما كانت الأسباب التي تعنيها هي لوحدها، أن تقوم بعملية إجهاض، ويسمح لنفسه أن يتحول من دكتور أو ممرض إلى عنصر من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عما يتصوره هو منكر، والمعروف والمنكر منه براء، براءة كل حيوانات الأرض من دم يوسف

وأخيرا في مجال الثقافة والتربية والتعليم والصحة والبيئة، حدِّث ولا حرج ! فالطريقة الوحيدة لمساندة الظلاميين، هي تعيين شخص منافق انتهازي وغير كُفْءٍ على رأس وزارة الثقافة، أو التربية والتعليم أو وزارة الصحة والبيئة! تعيين أشخاص غير أكفاء سوف يكون أنجع طريقة لتخريب كل هذه المجالات بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني. فمثلا، كل ما يحصل اليوم في بلدنا، من إجتياح مرعب لجائحة كورونا ما هو إلا نتيجة طبيعية لعدم وجود أشخاص قادرين على مواجهة مثل هذه الكوارث لعدم إختصاصهم في هذا المجال. ومثال آخر يتمثل في تعيين شخصيات لا ولاء لها لثقافة الوطن بل لثقافات هجينة، دخيلة، تتمظهر في ارتداء لباس للنساء والرجال لا علاقة لهما بثقافة البلد، والقيام بطقوس تتضارب مع قوانيننا وحتى دستورنا، على رأس دور الثقافة والرياضة. وبالطبع هدفهم الوحيد هو إيقاف كل التظاهرات الفنية الحداثية، وقتل كل مظاهر الإبداع عند الشباب وخلق فراغ من حولهم يبعثهم على الإحباط القاتل، الذي يجعلهم يضعون الحياة والموت على قدم المساواة ولن يتوارون في الإبداع في فن الهروب من الواقع، سواء عن طريق البحر، أو المخدرات أو حتى الانتحار

تونس دفعت هذه العشر سنوات، ثمنا باهظا لإدارة شأنها العام، مع بعض الاستثناءات، من قبل الأشخاص الخطأ الذين يتنافسون على المرتبة الأولى في الرداءة والنفاق واللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية. لكن دوام الحال من المحال ويجب على هذا الوضع أن يتغير لأنه لم يعد من المعقول والمنطقي بقاءه، لما يتضمنه من شبح الإفلاس على كل الأصعدة وفي كل المجالات

بقلم خديجة توفيق معلَّى