يقابل «المسؤولين» ويجوب البلاد أكثر من حكّامها…ماذا «يريد» السفير الأمريكي ؟

لم ينته شهر فيفري بعد، ومع ذلك يبدو حصاد السفير الأمريكي في بلادنا جدّ ثريّ، فقد التقى حوالي أربعة وزراء إلى حدّ الآن وزار خمس ولايات على الأقل والتقى ممثلي أبرز المنظمات التونسية إلى جانب التواصل مع «رواد الأعمال» الرجال والنساء والشباب واهتم كذلك بسياحتنا وإبداعنا وموروثنا الثقافي وصورنا الجميلة في غفلة على ما يبدو من أهل الحل والعقد وحكام تونس الجدد

وبلغة الفعل والإنجاز والتقييم الموضوعي، لا يمكن للمرء سوى أن يثني على نجاح هذا الدبلوماسي الأجنبي في خدمة وترجمة أهداف دولته وأن يمنّي النفس بأن يحذو الدبلوماسيون جميعا حذوه والاستئناس بتجربته علما وأن هذا الأخير لا يختلف كثيرا عن سفراء غربيين آخرين تركوا بصمتهم في ذاكرتنا وفي مقدمتهم السفير الفرنسي السابق أوليفيي بوافر دارفور الذي حضر ورقص على أنغام موسيقانا في الأعراس التونسية وتذوق عصير البرتقال واستمتع بربوعنا

ولئن كانت كثافة نشاط السفير الأمريكي منطقية بحكم تمثيله للقوة العظمى الأولى في العالم خصوصا وهو متواجد في دولة لها موقع استراتيجي في حوض البحر الأبيض المتوسط، فإن السؤال يظل مطروحا بحدّة ماذا يريد السفير الأمريكي؟

إنه يريد بنا خيرا، ربّما، فليكن، ولكن لا مناص من أن تكون العلاقة متكافئة وندّية وشفّافة وتفضي إلى تحقيق المصلحة المشتركة بعلمنا ووعينا وخيارنا

إن الاهتمام الأمريكي بنا ليس بالأمر الهيّن، فليس من اليسير أن تلتفت قوّة عظمى بحجم أمريكا إلى دولة صغيرة صراحة في حجم تونس خصوصا في زمن قلّ فيه فعل الخير لله في سبيل الله كما يقال 

إننا نقدّر إحساس السفير دونالد بلوم المرهف الذي خط بواسطته مقالا لجريدة «الصباح» اليومية المصادرة، أمس الخميس 24 فيفري 2022 تحت عنوان «رواد الأعمال في تونس ودورهم في دفع النمو الاقتصادي وخلق مواطن الشغل» وجوهر الموقف في تقديرنا ورد في الفقرة الثانية التي نقرأ فيها ما يلي :«يواجه التونسيون اليوم نسب بطالة عالية، وتخامر فكرة الهجرة عددا متزايدا من المبتكرين الشبان، وفي الوقت الذي يستوجب فيه الاقتصاد التونسي إصلاحات جوهرية لطالما تأخرت، تقف حكومة الولايات المتحدة على أهمية الاستعداد لدعم هذه الإصلاحات بما يتفق مع الإرادة الديمقراطية للشعب التونسي. وخلال هذه الفترة المفصلية، يتحتم على تونس أن تولي مطلق الأولوية لدعم رواد الأعمال الذين يمثلون أهم مزاياها التنافسية

هذا هو التشخيص الحقيقي الذي لم يكتشفه السفير الأمريكي لوحده، والذي يتّفق فيه مع الكثيرين، لكن الاختلاف وهو جوهري – هو في مستوى الحلول الضرورية للخروج من الأزمة الراهنة وفي طبيعة «الإصلاحات» التي يجب أن لا تكون مملاة ومسقطة وعلى حساب الفئات الشعبية والسيادة الوطنية

إن ما يقوم به السفير هو في نهاية المطاف تمرير ناعم لموقف الإدارة الأمريكية من تونس والمنطقة، والتمرير الناعم لا يقتضي اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل كما حدث في أكثر من رقعة من الأرض ولا حتى التعويل على العقوبات الاقتصادية والحصار المخفّف أو المشدّد

ثمة وصفة سحرية فيها جرعة سياسية وأخرى اقتصادية وجرعات أخرى اجتماعية وثقافية وغيرها لذلك مثلا غرّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس يوم عيد الحب14 فيفري ما يلي :«نشعر بالقلق إزاء قرار الرئيس التونسي سعيّد بحل المجلس الأعلى للقضاء. انضممنا الأسبوع الماضي إلى شركائنا الذين نتقاسم معهم نفس المواقف للتأكيد على أن القضاء المستقل هو عنصر أساسي لديمقراطية فعالة وشفافة» وهو نفس الموقف الوارد في الإحاطة الصحفية للخارجية الأمريكية بتاريخ 7 فيفري والبيان المشترك أنذاك لسفراء ألمانيا والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة الأمريكية والاتّحاد الأوروبي وإيطاليا و اليابان و فرنسا و كندا 

رسميا دائما، التقى السفير دونالد بلوم أول أمس بوزير الدفاع الوطني عماد مميش لـ «مناقشة التعاون الجاري والمشترك في المجال العسكري والقضايا ذات الاهتمام المشترك» وفق ما جاء في الصفحة الرسمية للسفارة. وسبق لسعادته أن التقى بوزير تكنولوجيات الاتصال نزار بن ناجي يوم 8 فيفري وناقش معه «أولويات تطوير التكنولوجيا المشتركة ومجالات التعاون الممكنة» مثلما التقى وزير السياحة والصناعات التقليدية محمد معز بلحسين يوم 2 فيفري بالموقع الأثري بسبيطلة في القصرين

ليس ذلك فحسب، زار السفير دونالد بلوم يوم الأربعاء الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي لـتهنئته على إعادة انتخابه ومناقشة التحديات الاقتصادية التي تواجه تونس والأهم من ذلك أن السفير «شدد على أهمية عملية إصلاح شاملة تشمل النقابات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني»  ( الصورة أعلاه ) وهذه الفكرة لا اثر لها في الخبر المنشور من قبل المنظمة الشغيلة

وقبل النقابيين التقى السفير بالقائد العام للكشافة التونسية محمد علي خياري لإطلاق مشروع «تراث» الذي تموّله السفارة الأمريكية

في غضون ذلك أيضا، زار السفير المدينة العتيقة بالقيروان وقبلي والقصرين والهوارية وكركوان وقليبية واهتم كذلك برواد الأعمال الناشئين من أفضل الجامعات في تونس وبمسابقة للتصوير الفوتوغرافي تحت عنوان : حكاية تونس

هي في النهاية حكاية تونسية وفي الأصل «فكرة دونالد بلوم» يريدها، وينفذّها على أرضنا لمصلحتنا ربما، ولمصلحة أمريكا دون أدنى شك، لكن الثابت أنه درس للجميع في ثقافة العمل والجودة والجدوى التي لا تحتاج للكثير من الكلام ولا حتى النوايا الطيبة بقدر الحاجة إلى الفعل والجرأة على الإنجاز

بقلم: مراد علالة