كفى تطبيعا مع التجهيل

أخبار التصرفات الغريبة التي ترتقي إلى العنف المعنوي المسلّط على التلاميذ، وخاصة التلميذات، من قبل المُتطرفين دينيّا في مؤسساتنا التربوية أصبحت مُتواترة بشكل مفزع لدرجة أن هذا النوع من العنف أضحى ظاهرة مخيفة، يبدو أن المسؤولين في مختلف المستويات على القطاع التربوي غير واعين بخطورتها

فهذا مدير مؤسسة تربوية يُقسّم التلاميذ إلى إناث وذكور قبل الدخول إلى المدرسة ويفرض عليهم الدخول من بابيْن منفصلين. وهذه فتاة ترتدي لباسا تونسيّا عاديّا تُمنع من تجاوز الامتحان لأن هندامها ليس مُطابقا للمواصفات الإخوانية أو الأفغانية، وهذا أستاذ التربية الدينية يحثّ تلاميذه على عدم حضور حصّة المسرح، وهذا أستاذ يُمجّد داعش ويُدينه القضاء بالحكم عليه بالسجن مع تأجيل التنفيذ ثمّ يعود إلى التدريس، الخ

هذه الممارسات لم نعش أبدا مثيلها زمن الاستعمار ولا طيلة الخمسين سنة الأولى من الاستقلال، عندما كانت المدرسة مُقدّسة وتُعتبر قلعة العلم ولا شيء غير العلم. لكن السنوات الأخيرة، ومنذ الثورة ومسك السلطة من طرف الإخوان المسلمين، أصبحت المدرسة هدفهم الأول. ألم يقل عبد الفتاح مورو، مُوجّها كلامه إلى الداعية المصري الإخواني وجدي غنيم: « هذا الجيل من التونسيين ميؤوس منه، وسنستهدف أبناءهم »؟ وهو ما يدلّ على وجود استراتيجية كاملة تعمل على أدلجة أبنائنا في المؤسسات التربوية بمختلف مستوياتها، من رياض الأطفال إلى الجامعة

فانتشرت رياض الأطفال والمدارس التي تُنعت ب »القرآنية »، حيث يقتصر تعليم الأطفال على « نار جهنم » و »عذاب القبر »، وأن « المرأة عورة »، وما شابه ذلك. وتكوّنت الجمعيات التي تُسمّي نفسها ب »الخيريّة »، وفُتح الباب أمام اتحاد علماء المسلمين المعروف ب »وكر القرضاوي » الإرهابي… والهدف من كل ذلك هو طبعا نشر الفكر الإخواني المُتطرّف لدى الناشئة حتى تتمّ تهيئة البلاد للانتقال من الدولة المدنية الحديثة إلى دولة الخلافة المُتخلّفة

ذلك إذن هو برنامجهم. وليس لهم أي برنامج آخر، بدليل أنهم لم يقوموا طيلة عشرية حكمهم بأي اجراء في أي مجال آخر، ممّا تسبّب في تقهقر مختلف مجالات الحياة، وخاصة منها المجال الاقتصادي

إن ما يقوم به الإخوان يمكن تلخيصه في السعي إلى أن يكون جيل الغد منغلقا على نفسه ورافضا للانفتاح على اللغات والثقافات والحضارات والأديان المختلفة حتى يقتصر تكوينه على التاريخ القديم للمسلمين بما فيه من تزييف وقلب مقصود للحقائق، وعلى قراءة مُتخلّفة للقرآن وللدين الإسلامي عموما، قراءة المُتزمّتين، رافضي الاجتهاد وإعمال العقل، ورافضي التأقلم مع الزمان ومع المكان، ومُتشبّثين بمقولات بالية على أنها مُسلّمات غير قابلة للنقاش أو المراجعة

كل ذلك أصبح واقعا ملموسا في بلادنا بإرادة من إخوان تونس. وهي طبعا وضعية على غاية من الخطورة على أطفالنا وشبابنا وعلى مستقبل بلادنا. لكن المعضلة الأكبر تتمثّل في تعاطي السلطة القائمة مع هذه الآفة

فالفتاة التي مُنعت من دخول المعهد لاجتياز الامتحان بسبب ارتدائها للباس لم يرق لإحدى القيّمات، لم تجد من يُنصفها من المسؤولين، لا القيّم العام ولا مدير المعهد ولا المندوبية الجهوية للتربية. والأمثلة عديدة على عدم اكتراث المسؤولين بمثل هذه الأحداث

وهو ما يدعونا إلى التساؤل: ماذا تريد السلطة الحاكمة اليوم من المدرسة العمومية؟ هل هي غائبة أو منهمكة في مواضيع أخرى ثانوية، أم هي متواطئة وتسعى مع الإخوان إلى أفغنة تونس؟
المسؤولية جسيمة، سيدي رئيس الجمهورية وسيدتي رئيسة الحكومة وسيدي وزير التربية. والأمر عاجل وخطير ولا يحتمل الانتظار

وللتذكير، فلقد كرّست النخبة التونسية، نساء ورجالا، طيلة عقود طويلة من الجهد والعطاء من أجل تعليم مدني مُتطوّر أعطى ثمرته في انتاج أجيال من المثقفين والعلماء تشهد بكفاءتهم الدول المتقدمة بدليل طلبها المتواصل لخدماتهم. وبسبب تآمر المتطرّفين الدينيين على الشعب وعلى الوطن، ها أننا أصبحنا نتعايش مع الإرهاب والعنف ومنطق التكفير، وأصبح جزء من نساء ورجال التعليم ينخرطون في آلة التجهيل الشيطانية دون حسيب ولا رقيب

المبادرة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية بإنشاء مجلس أعلى للتربية والتعليم جديرة بالمتابعة، في انتظار تركيبتها والأهداف التي ستُرسم لها

فإذا كان هذا المجلس سيتكوّن من المربّين المستنيرين والأخصّائيّين البيداغوجيين، وإذا كان الهدف من عمله هو إصلاح المنظومة التربويّة على قاعدة العقلانية والفكر النقدي الرافض للمُسلّمات المُتخلّفة وعلى قيم الجمهورية المدنية ومبادئ حقوق الإنسان، فإن الأمل سيُصبح مُتاحا في أن تعود بلادنا إلى مصاف الأمم المتحضّرة وتعود إلى الطريق الذي حادت عنه خلال العشرية الماضية. أما إذا طغى على هذا المجلس أعضاء من طينة الذين شاركوا في محاولة أدلجة المؤسسات التربوية في سبيل جعلها أداة لتفريخ الإرهابيين ودعاة التزمّت والعنف، فيا خيبة المسعى

منير الشرفي