على النهضة أن تعيَ بأنها جزء من الماضي

لي جارٌ ينتمي لحركة النهضة. بادرني ذات صباح، خلال هذا الأسبوع، بالتحية وبالقول : كفانا عداءً. كلنا نعمل من أجل الوطن في هذا الوضع الصعب. فالنهضة حزب مدني سلمي ديمقراطي ووطني. وعلينا التكاتف من أجل تونس

لم يُفاجئني هذا الكلام، علما بأن حركة النهضة تسعى بكل ما أوتيت من جهد في هذه الفترة بالذات إلى التخفيف من وطأة التّهم والشبهات التي تحوم حولها، خاصة بعد الندوة الصحفية الأخيرة لهيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وبعد قطع جناحيْها في الأشهر الأخيرة اللتين كانت تُحلّق بهما منذ عشر سنوات على سماء تونس، دون مُعارضة تُذكر ودون حسيب ولا رقيب

وبعد السقوط المُدوّي لحزب النهضة، وحتى يستعيد أنفاسه وشيئا من سالف نفوذه، أو على الأقل حتى يتجنّب المحاسبة التي قد تكون قاسية، لا غرابة في أنه يُحاول الظهور بمظهر القط الوديع الودود الذي لا يُؤذي أحدا ولا يطلب غير شيء من العطف، تحسّبا للبطش الذي يراه قادما نحوه بسرعة وبقوّة

صحيح أن أيّاما صعبة يبدو أنها تنتظر النهضة. لكن لا بدّ أن ينظر هذا الحزب بكل واقعيّة وموضوعيّة لتاريخه البعيد والقريب، وخاصّة لأدائه كحزب حاكم، بشكل مباشر أو غير مباشر، طيلة عشرية كاملة

فالقول بأن النهضة حزب مدني لا ينطلي على عاقل. ألم يكن هذا الحزب يُسمّى « حركة الاتجاه الإسلامي »؟ وما تغيير اسمه إلا إجراء تكتيكي للحصول على التأشيرة نظرا إلى أن قانون الأحزاب التونسي لا يسمح بوجود حزب ذي مرجعية دينية. كما لا ننسى التوجّه الديني الواضح في سياسة الحزب في السنوات الأولى من الثورة، خاصّة التصريحات النارية لبعض قيادييه مثل اللوز وشورو، قبل اتّخاذ القرار بفصل السياسي عن الدعوي. وفي هذا الصدد لا يفوتنا أن نلاحظ أن الجانب الدعوي لم يتمّ التخلي عنه، وإنما تمّ فقط فصله عن السياسي

أما القول بأن النهضة حزب سلمي، فهو كلام لا أعتقد أن النهضويين أنفسهم يُصدّقونه. ألم يُعرف الحزب منذ عقود بالعنف وب »التشليط » و »التفجيرات » و »ماء الفرق »؟ أيُريدون أن ننسى العثور في مقر اتحاد الطلبة الإخواني على الهراوات والسلاسل والماء الحارق؟ أيُريدون أن ننسى عملية باب سويقة الإجرامية؟ كل ذلك في انتظار ما ستُسفر عنه التحقيقات في التّهم المُوجّهة للحزب بخصوص الاغتيالات السياسية والجهاز السري والغرفة السوداء وتسفير الشباب إلى « الجهاد »، وما إلى ذلك من شبهات أعمال العنف. فأما من ناحية الشبهات التي لم يتمّ بعد الفصل فيها، فلا غرابة أن يرفض النهضويون اليوم التعامل على أساسها قبل أن ينطق القضاء بكلمته في شأنها. وأما الجرائم السابقة والتي أدانها القضاء، فالقول بأنها مجرّد بعض التجاوزات لا تُقنع أحدا ولا تنزع صفة الحزب العنيف عن النهضة

هل النهضة حزب ديمقراطي؟ طبعا لا وألف لا. فالحزب الديمقراطي لا يبقى على رأسه مُسيّر واحد أوحد طيلة خمسين سنة. ثمّ أننا شاهدنا سلوكه في السلطة حيث لم يُشرّك أيّ كفاءة غير موالية للنهضة أو للأحزاب الموالية لها. واقتصرت الحكومات المتتالية طيلة العشر سنوات على الموالين بمن فيهم المعروفين بقلة النزاهة والكفاءة والوطنية. والنتائج الكارثية للحكم في هذه الفترة كافية للتقييم السلبي للغاية ل »ديمقراطية » النهضة التي لم تُشرّك أيّ معارض لها في السلطة حتى إن كان من أصحاب الكفاءة والتجربة

نأتي الآن إلى صفة « الوطنية » التي تسعى حركة النهضة إضفاءها على الحزب. فعن أي وطنيّة يتحدّثون؟ الجميع يعلم أن الحركة مُرتبطة ارتباطا عضويا بشبكة أجنبية تحت راية « الإخوان المسلمون » و »الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين » الذي وضع قدما في تونس رغم كل الانتقادات والمعارضات. وعلاوة عن هذه الارتباطات الخارجية بما فيها من شبهات التمويل الأجنبي المُتدفّق، نكتفي في هذا المجال بذكر مثال صارخ عن انعدام وطنية حزب النهضة والمتمثّل في تمرير اتفاقية بيع تونس لمؤسسة مالية قطرية في منتصف ذات ليلة في مجلس النواب وفي ظروف مشبوهة للغاية. علما بأن هذه الاتفاقية تمنح لدولة أجنبية امتيازات خيالية وسيطرة تامة على الاقتصاد الوطني. فهل أن مثل هذا الصنيع يُمكن اعتباره عربونا للوطنية؟

لا يهمّنا كمواطنين أن يبقى قادة النهضة في مقرات إقامتهم أو في الخارج أو في السجون. إن ما يهمّنا هو ألّا يعودوا إلى السلطة وألّا يُواصلوا تهديم ما بناه التونسيون طيلة عقود من أجل قيام الدولة المدنية الحديثة، وأن يعوا بأنهم جزء من ماضٍ بعيد عن أن يكون مُشرقا

من هذا المنطلق، فإن معارضتهم لا تعني التشفي كما لا تعني تأييد خصومهم. كما أن دعوة النهضة إلى تجميع القوى ضد السلطة القائمة لا تعني وجوب تجميعها إلى جانبها، حتى إن قبل بعض الأنفار المحسوبين، خطأً، عن اليسار أو عن الديمقراطيين بالتحالف المُخجل معهم

في الأثناء، لا بدّ من اليقظة الجماعية من أجل ألّا يجد التونسيّون أنفسهم تحت سيطرة من لا يُسيّر البلاد بكفاءة ووطنية وديمقراطيّة

وفي الأثناء أيضا، ننتظر أن يشرع الرئيس قيس سعيّد في الإصغاء إلى أهل الذكر قبل اتّخاذ القرارات الهامّة والخطيرة أحيانا. كما ننتظر تجميع القوى التي لم تُشارك في انهيار الدولة حتى تُساهم بجديّة في إعادة البناء

منير الشرفي