صُدِّعَتْ الرؤوس بالهراء عن الانتخابات الحرّة والنزيهة والشفافة… أين منظمات «الرصد» و«المراقبة» مما يحدث في تونس؟

تتفاقم الأزمة ببلادنا من يوم إلى آخر وتزداد القناعة كذلك بأنها أزمة مركّبة وشائكة لا يمكن الفصل فيها بين ما هو اقتصادي واجتماعي وما هو سياسي وأخلاقي وأي حديث خارج هذه المعادلة وهذا النهج هو هروب إلى الوراء لا إلى الأمام بخلاف ما يقوله البعض، لأننا ببساطة واقعون في الهوة والردة عن الديمقراطية والثورة وعن أهدافها وليس أدل على ذلك من لجوء الكثيرين إلى المقارنة العبثية والمسقطة بين ما نحن فيه اليوم وما كنا عليه قبل عقد من الزمن والحقيقة أننا لو كنا في سياق محصّن لما حل الخراب بهذه السرعة وهذا الحجم.
الثابت اليوم ايضا أننا بصدد الدوران في حلقة مفرغة، الجميع يشجب الأزمة ويلعن وقعها على البلاد والعباد ويتغنّى بالحوار ويروّج انه الوصفة المثلى للخروج مما نحن فيه دون تواضع او تنسيب او مصارحة او تقديم حلول عملية وواقعية مرفوقة كما قلنا ومرارا بتنازلات «مؤلمة». ان التنازلات من أجل الوطن، من أجل تونس ليست في النهاية مؤلمة لان أصحابها يدخلون بها التاريخ، والتاريخ لا يحفظ ولا يحترم من يعيش على الهامش ومن يركض وراء مجده الخاص

لقد تعالت الأصوات المسوّقة للحلول والحوار من أركان منظومة الحكم وما دأبنا على تسميتها بالرئاسات الثلاث التي هي في المحصّلة سبب الأزمة ووقودها وتناسلت كذلك مقترحات الطيف السياسي وتزاحمت الأحزاب لتأكيد حصرية ملكيتها للسبق في التبشير بالحوار ونفس الأمر يحصل مع الطيف المدني والمنظمات الاجتماعية «الكبرى» بيد ان نقطة استفهام كبيرة نطرحها اليوم بشأن «شقّ» لا يستهان به من هذا المجتمع المدني صدع رؤوسنا وملأ الدنيا وشغل الناس كما يقال بالعمل على رصد ومراقبة وملاحظة الانتخابات بشقيها الرئاسي والتشريعي لضمان الشفافية والحرية والنزاهة

اننا نفتقد صراحة هذه الجمعيات التي جنّدت الآلاف من المتطوعين وغير المتطوعين واستأجرت المقرات الفاخرة وحجزت النزل الراقية وتسلّحت بأعتى أدوات العمل من التكنولوجيا عالية الجودة وبلغ الأمر ببعضها اختيار «زي نظامي» ان جاز القول للتمايز وإبراز قوة الحضور على الميدان. ليس ذلك فحسب وقع تقديم «دروس» ودورات تدريبية في الانتخابات والتركيز على أهميتها في سياق الانتقال الديمقراطي لتصعيد ممثلين حقيقيين للشعب متشبّعين بالديمقراطية ومزهوين بالشرعية الانتخابية. علاوة على ذلك، وباستثناء بعض الأصوات في هذه المنظمات فإن الموقف من الانتخابات التي حصلت في 2019 يكاد يكون متقاربا واحدا موحّدا : الانتخابات جرت في ظروف دقيقة وحصلت فيها تجاوزات لا تفسد للود قضية «وان شاء الله في عودة» بلغة التونسيين!. ولحسن حظ تونس وشعبها ان محكمة المحاسبات كشفت المستور ورصدت بمهنية وحرفية عالية تجاوزات خطيرة في هذه الانتخابات كنا نمنّي النفس ان تؤشّر إليها منظمات الرصد والمراقبة والملاحظة

المهم الآن، ان فهما منقوصا على ما يبدو ساد بشأن الانتخابات الأمر الذي خلق مطبّات وقعت فيها هذه المنظمات التي تختزل على ما يبدو العملية برمتها في «عرس» تصرف فيه الأموال، يقف فيه الناخبون في الطابور ويغمسون أصابعهم في الحبر المستورد ويضعون البطاقات الملونة في الصندوق الشفاف ويعودون بعد ذلك فرحين مسرورين إلى الديار ايذانا بانتهاء العرس او الموسم الانتخابي

ان أخطر ما يضرب مصداقية وعمل منظمات الرصد والمراقبة والملاحظة هو «الموسمية» والنوم في العسل بين «الاعراس» الانتخابية الدورية ونستغرب في هذا السياق صمتها اليوم وغيابها وعدم الإدلاء بدلوها في الأزمة الراهنة التي هي في نهاية الحكاية إفراز للعملية الانتخابية التي رصدوها وراقبوها ولاحظوها، ووثقوا الحكاية في النهاية في تقارير عرضت في ندوات صحفية وسلّمت للجهات المانحة مشكورة. صحيح ان المال قوام الأعمال، لكن نشر الثقافة الديمقراطية وتنمية الوعي بها والذي هو عمل يومي نضالي تطوعي يفرض الحضور الدائم واستمرار الاهتمام بالشأن العام على مدار العام بعيدا عن الفصول والمواسم الانتخابية وهي نفس الرسالة التي نوجّهها للهيئة العليا المستقلة الانتخابات رغم قناعتنا بهونها الآن

وفي باب التذكير الذي ينفع التونسيين فإن الانتخابات ليست عملية تقنية معزولة بل آلية من الآليات الديمقراطية التي تحتّم على المؤمنين بها المنخرطين في تنفيذها العمل كي لا نقول النضال اليومي من أجل تحصين الديمقراطية المهدّدة اكثر من أي وقت مضى في بلادنا رغم توفر شروط الإنقاذ والنجاة

بقلم : مراد علالة