خارطة الطريق في مفترق

لم يكن رئيس الجمهورية قيس سعيد يوما على عجل من أمره، فهو الذي ثابر منذ سنة 2011 لحظة اكتشاف الثورة ولذّة المشاركة في الشأن العام على تمرير ما يمكن أن نسميه مشروعه السياسي على مهل، وفضّل الدخول في السباق الرئاسي إلى قرطاج متأخرا في 2019 وقَبِل كل من زكّاه في الدور الثاني أمام خصمه اللدود حينها، ومكث بعد ذلك يرصد المشهد الوطني ويصطفي رؤساء للحكومة ويرمي بـ«الصواريخ» الكلامية بين الفينة والأخرى إلى أن جاءت لحظة 25 جويلية 2021، ليعلن التقدم في «المشروع» ويفعّل الفصل 80 من الدستور على طريقته

وبخلاف ما ذهب إليه البعض وأراده البعض الآخر وحرّض من أجله، لم يغيّر «الرئيس» سرعته ونسقه ولا مضمون مشروعه السياسي الذي وإن بقي هلاميا وضبابيا فإن «المفسّرين» لم يدخروا الجهد في التعريف به ولو بشكل زاد في غموضه وتعقيده وتغذية الخوف والخشية من مضامينه ومخرجاته

وكان لزاما علينا انتظار أسابيع لاتخاذ الخطوة الثانية ثم الثالثة بعد التطبيق «الاستثنائي» للفصل 80 واكتشاف خارطة الطريق التي نادى بها الداخل والخارج على حد سواء

وتضمنت الخارطة –وهي كلمة لم يكن يستسيغها سيادته – جملة من الأركان أبرزها الاستشارة الالكترونية الشعبية والاستفتاء والانتخابات التشريعية يوم 17 ديسمبر 2022 بالتزامن مع التاريخ الجديد لثورة 14 جانفي

وقد تنفّس بعض الداخل والخارج الصعداء كما يقال بإعلان الخارطة وخصوصا جدولها الزمني وكان التحفّظ الوحيد أو ربما الطلب الوحيد هو الابتعاد عن الأحادية والجنوح إلى التشاركية لضمان الفعالية وخصوصا قطع الطريق أمام العودة إلى ما قبل 25 جويلية 2021 و14 جانفي 2011 بالنسبة إلى البعض كذلك

وارتفعت على امتداد الأسابيع والأشهر الحناجر «المدنية» و«النقابية» و«السياسية» وحتى بعض أصوات المستقلين من خبراء المادة الدستورية بالخصوص، للإصداح بـ «المساندة» و«المساندة النقدية» وضرورة تشريك «الصادقين» و«الثوريين» غير الطامعين في الغنيمة وغير المطبّعين مع «النظام القديم» ومع «قوى الثورة المضادة» في وقت أصبح من السهل الحديث عن الثورة

وبقطع النظر عن مواقف خصوم الرئيس قيس سعيد أو لنقل خصوم المشروع السياسي لساكن قرطاج، وإن كانت وجيهة في تحفظّها على الشكل والمضمون، فإنّنا لا يمكن أن نتّفق مع من كان سببا وجزءا رئيسيا في ما نحن فيه من خراب وتأزّم اليوم، ونتماهى في المقابل مع الأصوات الصادقة التي تحظى أيضا بالشرعية والمشروعية التاريخية والشعبية والقيمية لأن الشرعية لا يمكن أن تكون فقط نتاج صناديق الاقتراع فقط أو عمليات سبر الآراء

ومن هذا المنطلق بالذات فإن خارطة طريق رئيس الجمهورية اليوم، في مفترق الطرق، ولا أحد يستطيع أن يجزم بتنفيذها كاملة وبفعالية وفق الجدول الزمني المرسوم لها، والأهم من ذلك تحقيق الأهداف المرسومة لها وهي إرجاع الحق لأصحابه أي إرجاع الثورة إلى التونسيين

إن ما يدفع إلى مثل هذا الاستنتاج هو أيضا المنجز بعد زهاء نصف عام من استئثار رئيس الجمهورية بجميع السلط فأغلب مشاريع المراسيم «الإصلاحية» في الانتظار كما يقال رغم التبشير بصدورها في غضون أيام على غرار مرسوم الصلح الجزائي ومرسوم إحداث صندوق الإحاطة بعائلات شهداء وجرحى المؤسسة الأمنية والعسكرية جراء الإرهاب ومرسوم «الضرب على أيدي المحتكرين» ومرسوم المجلس الأعلى للتربية وغيره، وإذا كان الأمر بهذا الشكل في علاقة بمراسيم قطاعية فما بالك بالإصلاحات السياسية الكبرى

لقد جاء في إعلان الخارطة أنها تنطلق بالاستشارة الالكترونية كشكل غير تقليدي من المشاركة الشعبية في الفاتح من جانفي 2022 ثم قيل في نفس اليوم ودون سابق إنذار أن صعوبات تقنية حالت دون الانطلاق الفعلي للعملية التاريخية غير المسبوقة ووقع تخصيص النصف الأول من شهر جانفي لـ«عملية بيضاء»، ومنذ ذلك الحين وإلى غاية اليوم، ونحن نتجاوز نصف عمر الاستشارة، يعترف الرئيس بأن عدد المشاركين فيها : كان دون المطلوب

واللافت أن الرئيس يختلف جذريا مع الوزراء في شرح الأسباب، فخلال الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء وفي كلمته الافتتاحية المعهودة، قال قيس سعيد : بالنسبة للاستشارة.. عدد المشاركين كان دون المطلوب وهذا يعود إلى جملة من العوائق الفنية وهناك عقبات أخرى من طرف المنظومة القديمة التي تحاول بكل ما أوتيت من أدوات إفشال هذه التجربة

في المقابل، لم نجد صراحة في شهادة وزير الاتصال مثلا أو وزير الشباب والرياضة ما يفيد بذلك فقد اكتفى هذا الأخير على سبيل المثال أثناء زيارة إلى ولاية الكاف قبل يومين وحديثه للإعلاميين عن الاستشارة الوطنية بالقول أن المواطن التونسي بالداخل والخارج وجد فيها بعض الإشكاليات راجعة إلى غياب التغطية بالإنترنت. ليس ذلك فحسب، قال ان : هذه الاستشارة لن تكون ناجحة إلا بمشاركة المواطنين بجميع أصنافهم حتى الرافضين لها والذين من حقهم إبداء رأيهم بالرفض لها. ونحن نأمل أن يرتفع عدد المشاركين فيها من اليوم إلى حدود 20مارس المقبل

الصراع إذن ضد الساعة هنا، وضد الشرعية وضد المصلحة الوطنية وحتى المصلحة الخاصة لصاحب المشروع السياسي في محيط إقليمي ودولي يتربص بنا

إن التعثر في تحقيق نسبة مشاركة ممثّلة للشعب التونسي يعني بالضرورة عدم التعبير عن الإرادة الكاملة للتونسيين فالأمر لا يتعلق هنا بعيّنة من الشعب «المحظوظ» ربما بالتعاطف مع الرئيس أو بالظفر بتغطية انترنيت مناسبة، ولكن بمشاركة واسعة

ثانيا، يتساءل المرء عن «الفريق» أو «اللجنة » التي سيعهد لها «التأليف» وصياغة «الإصلاحات السياسية» وفق الخارطة وهنا سؤالان يُطرحان بقوة، أولهما حول الأفراد ومن له الأحقية في التواجد ضمن «المؤلفين» وثانيهما تأليف ماذا، وهل الأمر يتعلق بصياغة دستور جديد وقانون انتخابي جديد ونصوص قانونية أخرى مرتبطة بالانتخابات أم فقط تنقيحات وترميم للبيت التشريعي المبعثر؟

بعبارة أخرى حول ماذا سيُستفتى الشعب وكيف ذلك ومن سيشرف على الاستفتاء ومن سيموّل العملية برمتها؟. وماذا لو ذهب التونسيون إلى الأقصى و«أرادوا» انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة؟ أليس الشعار، الشعب يريد؟

وبالإضافة إلى ما تقدم، ومثلما كتبنا ذلك في مناسبات عديدة فإن الوضع العام بجوانبه الاقتصادية والاجتماعية والمناخ العام الذي تعيشه البلاد ليس في تقديرنا مناخا مناسبا لانتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة. قد نكون قادرين على إنجاز أي استحقاق انتخابي كما اتفق، لكن إجراء انتخابات تعيد تونس للتونسيين كما نريد فهذا أمر آخر لا خاب من استشار وتحاور بشأنه مع التونسيين بالفعل

مراد علالة