الآفات التي أصابت بلادنا

ثلاث آفات حلّت ببلادنا في الفترة الأخيرة، وهي الإرهاب والفساد والوباء

فأمّا الإرهاب الذي انتشر في تونس منذ بداية العشرية الماضية، أي منذ انتخابات أكتوبر 2011، فلقد استقرّ بشكل يُمكن أن نقول بأننا بلغنا درجة التطبيع معه، وأصبحنا نحمد الله كل يوم يمرّ بدون أن نسمع عن عملية إرهابية أو عن العثور على أسلحة بحوزة « مجاهدين » يستعدّون للقيام باغتيال جنود أو أعوان أمن أو مدنيّين. ولقد شنّت كافة الحكومات المتعاقبة خلال هذه العشريّة « حربا » على الإرهاب اتّسمت بالمرونة والهدوء، وأحيانا بالتفهّم، ممّا جعلها غير مُجدية بالمرّة. فلم نرَ أي حزم في القضاء على أصل الداء، ولم يتمّ طرد أئمّة الجوامع الذين يدعون إلى العنف، ولم يُفتح ملف الجهاز السرّي، ولم يتمّ الكشف عن الذين خطّطوا للاغتيالات السياسية وأمروا بها، ولم، ولم، ولم، الخ… بل الذي حدث هو العكس. إذ أن الذي نلاحظه هو مسك المُنفّذين المرتزقة والتستّر عن الفاعلين الأصليين. ألم يُدافع المشيشي بكل حزم عن معقل المُتطرفين في مقر الجمعية الإرهابية « اتحاد علماء المسلمين » بتعنيف الذين عارضوا وجوده في تونس؟

وأما الفساد، فقد عمّ في كل القطاعات وفي كافة الجهات، حتى أصبح الاقتصاد الموازي سيّد الموقف وأضحت التجارة حكرا على بضعة أنفار يتحكّمون في السوق ويمسكون بجلّ الموادّ الحياتيّة للمواطن. فازدادت ثرواتهم بشكل فاحش وأُفرغت جيوب المواطنين بشكل مُفزع. ولقد سلكت حكومات العشرية الماضية مع ملف الفساد نفس السلوك الذي اتّبعته مع ملف الإرهاب. فهي ترفع شعار الحرب على الفساد، وتتستّر على كبار الفاسدين، الذين أفسدوا بدورهم جزءا من الماسكين بالسلطة، يبدو أن عددهم يزداد يوما بعد يوم. فإذا بأصحاب المال الفاسد، المهرّبين والهاربين من الضرائب، أضحوا يتمتّعون بحصانة سياسيّة. زد على ذلك ضعف السلطة السياسية المُنهمكة في الصراع بين مُكوّناتها من أجل الكرسي، ممّا أدى إلى انخرام الإدارة بالتوظيف الوهمي، وانهيار الاقتصاد بسبب سوء التصرّف حينا، مثلما حصل مع ملف الفسفاط حيث أصبحت تونس مُورّدة لهذه المادّة بعد أن كانت من أهمّ مُصدّريها، وبسبب سوء النيّة أحيانا جرّاء الاستيراد السياسي، وأقصد به استيراد موادّ لا حاجة لنا بها إرضاءً لدول صديقة للحاكم، كما حصل مع ملف استيراد الملابس التركية بكميات مهولة ممّا أدى إلى غلق مئات من معامل النسيج التونسية. ومن ثمّ يمكن القول بأن الفساد الاقتصادي والفساد السياسي أصبح كل منهما يتستّر على الآخر وينمو به. والنتيجة إفلاس المواطن وإفلاس الدولة حتى أصبح التسوّل من الخارج سياسة قائمة الذات

وأما آفة الوباء فإنها فضحت ضعف الدولة وعرّت عن انعدام كفاءتها بشكل مُخجل، حتى أصبحت تونس من أكثر الدول الموبوءة في العالم، ناهيك أن 21 ولاية من بين 24 تمّ الإعلان عن أنها مناطق منكوبة وذات درجة عالية من الخطر. ففي القيروان، تقول التحاليل بأن مواطنيْن اثنيْن من كل ثلاثة مواطنين مُصابان بالوباء. ذلك أن الحكومة لم تتفطّن إلى وجوب استيراد التلاقيح إلّا بعد أن نفذت من السوق العالمية، ولم تقم بإعداد ملفها إلى منظمة الصحة العالمية إلّا بعد أكثر من مائة دولة. النتيجة هي أننا فقدنا أكثر من 13 ألف مواطن بالكورونا، ولم يتمّ التلقيح لحد اليوم إلّا لعُشر المواطنين، في حين بدأت بعض الدول المُتقدّمة في تلقيح أطفال الثلاث سنوات، وشرعت إسرائيل في تلقيح مواطنيها للمرّة الثالثة تحسّبا لعدم فعاليّة جرعتين اثنتين بالقدر الكافي

خلاصة القول هي أن الدولة التونسية لم تقم فعليّا بما تُسمّيه بالحرب على الإرهاب وعلى الفساد وعلى الوباء. ويحقّ لنا أن نتساءل: هل أن حُكّامنا خسروا هذه الحروب، أم أنهم تواطؤوا ضد الشعب ليترعرع فيه الإرهاب والفساد والوباء حتى يتمكّنوا من السلطة؟
شخصيّا أُرجّح الاحتمال الثاني. ولكن، حتى إذا كان الاحتمال الأول هو الصحيح، وحتى إذا كان الفشل غير مقصود، فإن السلطة التي تفشل في مسائل حيوية وفي قضايا على هذا القدر من الأهميّة ومن الخطورة، فإن مآلها الطبيعي هو الرحيل. والرحيل هو أضعف مآل، حتى لا نتكلّم عن المحاسبة

هذا الوضع يجعلنا نُجزم بأن الآفات الثلاث سالفة الذكر هي في حقيقة الأمر نتائج للآفة الكبرى التي يُعاني منها الشعب والمُتمثّلة في سلطة سياسية برهنت على عدائها له مقابل مصالح شخصية أو فئويّة ضيّقة

ولأن الوضع في البلاد تأزّم إلى حدّ لم يعد يُطاق، علينا أن نعي بأننا نعيش تحت وطأة آفة خامسة، ولعلّها الأخطر. وأعني آفة ركود المجتمع واستقالة النخبة التي « تُناضل » بالتعبير عن السخط في الصالونات وفي الفايسبوك

منير الشرفي