الشَّكْشُوقَراطِيّة

نشر رأس الفرقة النّاجية أخيرا تصريحا مثيرا كال فيه الإطراء والمديح بدون حساب لشريكه التّاريخيّ في بناء « التّوافقراطيّة » الّتي أنقذت « الثّورة » التّونسيّة (كذا زعم، والحقيقة أنّ المقصود هي الثّورة « الفرقنجويّة »، نسبة إلى فرقته النّاجية) و »الرّبيع العربي ». والمقصود طبعا هو الشّتاء الإسلامسياسيّ. وكم كنّا نودّ لو أنّ رأس الفرقة النّاجية، الفخور بـ « إنجازاته » اللاّتاريخيّة (لأنّها بكلّ بساطة تقع في مجال التّاريخ الإلهي الخوارقيّ الّذي لا مكان فيه للفعل البشريّ)، استرسل في اعترافاته وأخبر الشّعب التّونسيّ لماذا أصرّ هو وشريكه في هذا الانقلاب الأبيض الّذي شلّ الإرادة الشّعبيّة على خوض غمار انتخابات كلّفت دافعي الضّرائب الكثير؟ لماذا لم يضع الشّريكان الشّعب التّونسيّ أمام الأمر الواقع، وأعلنا عن قيام « توافقراطيّتهم » المقدّسة في خضمّ مهزلة « الحوار الوطنيّ » باعتبارها أفضل الحلول للأزمة القائمة؟ وكم كنّا نودّ كذلك لو منّ علينا رأس الفرقة النّاجية بلفتة إضافيّة من لفتاته الإسلامسياسيّة الكريمة وأعلمنا لماذا اختار غبطته أن ينشر اعترافه الخطير هذا في هذا الوقت بالذّات؟
النّتيجة الملموسة لهذا الاتّفاق السّرّي الّذي دبّر بليل في بيت « الشّيخين »، اللّذين توهّما أنّ نجاة البلاد رهن بإرادتهما هما الإثنين بالذّات، أحبّ من أحبّ وكره من كره، أنّنا نحيا اليوم في ظلّ دولة، يؤكّد الدّستور أنّها « مدنيّة »، ويقول رأس الفرقة النّاجية، متحدّيا شريكه، إنّها « إسلاميّة »، وزاد في اعترافه، الصّادر أخيرا، أنّها ديمقراطيّة، وتواضع بعض الشّيء فنعتها بالنّاشئة. والحقيقة أنّ العجيبة، الّتي تمخّض عنها توافق الشّيخين، أو تلافقهما (نسبة إلى التّلافق)، يمكن أن تطلق عليها أسماء كثيرة، ليست الدّيمقراطيّة منها، نخصّ بالذّكر منها « الشّورقراطيّة »، والدّيتقراطيّة (نسبة إلى الدّيمقراطيّة والتّيوقراطيّة)، والإسلامقراطيّة (نسبة إلى الدّيمقراطيّة والإسلام السّياسيّ)، والخلافقراطيّة (نسبة إلى الدّيمقراطيّة والخلافة)، والعائلقراطيّة (نسبة إلى العائلة والدّيمقراطيّة)، وغيرها من ثمار الخلط القبيح الّذي يحاول أصحابه عبثا أن يمزجوا الدّيمقراطيّة بكلّ شيء، وبكلّ محال، ممثّلا في التّهويمات اللاّهوتيّة والغيبيّة الّتي أفصح عنها رأس الفرقة النّاجية، منذ زمن طويل، في مصنّفاته الّتي يقول عنها أتباعه إنّها غير مسبوقة في مجال الإصلاح الدّينيّ
ونحن نعتقد أنّ رأس الفرقة النّاجية يصرّ على نعت « التّوافقراطيّة » (الّتي ساهم في إبداعها، أو أبدعها وحده وألزم بها شريكه) بالدّيمقراطيّة لأنّ رعاة « التّحوّل » الصّليبيّين يحبّذون هذه « اللّفظة » بالذّات. وهو حريص على إرضائهم وكسب ثقتهم إلى حين الفراغ من عمليّة « التّمكين » الّتي يضطلع بها جنود خفائه الّذين باتوا واضحين للعيان، وازدادوا وضوحا منذ حشدهم في ساحة باردو لكبح جماح العلمانيّات المتجرّئات على حياض شريعته المقدّسة. وقد ازداد فضيلته اقتناعا بهذه الإستراتيجيّة الحكيمة لمّا أدرك أنّ « الدّيمقراطيّة » لا تعوق جهود « الممكّنين » في تحقيق التّماثل المجتمعي المنشود، ونمططة (نسبة إلى التّنميط) السّلوكات الفرديّة وفقا لرغبات سماحته، وذلك رغم قناعته (وهو ما تحاشى الحديث عنه في اعترافه) أنّ النّتائج الّتي تحقّقت حتّى اليوم هي دون المأمول. بل إنّه يكاد يكون على يقين أنّ الخلافقراطيّة لن تتحقّق في مهد « الرّبيع العربيّ » طالما استمرّت النّساء في « عنادهنّ » واستهتارهنّ بالقيم الإسلامسياسيّة، وخاصّة منها « الإجماعقراطيّة » (نسبة إلى الإجماع والدّيمقراطيّة) حول ولايته المقدّسة، المعبّر عنها اصطلاحا بالبيعقراطيّة : نسبة إلى البيعة والدّيمقراطيّة
وممّا لا شكّ فيه أنّ رأس الفرقة النّاجية كان يودّ لو أتاحت له الظّروف فرصة طمأنة شيعته الأقربين الّذين لا يدينون إلاّ « بالشّورى »، ويكرهون أن يتحدّث أحد بمحضرهم عن فضائل « الدّيمقراطيّة »، الفاسقة وفقا للنّصوص القطعيّة الصّريحة، ويكرهون خاصّة أن يضطرّ هو بالذّات إلى التّقيّة فينطق لسانه لما لا يقرّه وجدانه. ولو كانت الظّروف مواتية لكان فضيلته جازف وألقم أعداء فرقته أحجارا يغصّون بها فيموتون اختناقا، ولكان أعلن أنّ الدّيتقراطيّة (نسبة إلى الدّين والدّيمقراطيّة)، الّتي تحقّقت صلب الفرقة النّاجية، أفضل بكثير من الدّيمقراطيّة لأنّها تنهض على الإجماع، بينما تعوّل الثّانية على الأغلبيّة. ومن البديهيّ أنّ الإجماع من الحقّ، والأغلبيّة من الباطل، خاصّة وأنّ الإجماع المذكور تمّ داخل جماعته هو بالذّات الّتي عصمها العزيز الرّحمان من المزالق والمهالك والأهواء
وشيعة رأس الفرقة النّاجية يدركون جيّدا أن « إمامهم » مضطرّ إلى اعتماد هذا الضّرب من « التّكتكة » (نسبة إلى التّكتيك) للتّلبيس على أعداء الله، وأنّ التّوافق الّذي أقرّه مرغما هو خطوة ضروريّة لتيسير أعمال « التّمكين » الّتي انطلقت في عهد التّرويكا السّعيد. وأشدّهم ولاء لزعيمهم الملهم يؤكّدون أنّ الله هو من أوعز لخادمه الوفيّ باعتماد هذه الخطوة. وها قد أعمى الله بصيرة الأعداء فأوقعهم في شراك مهديّهم، ثمّ يردّدون مهلّلين: « وكان موش عماهم ما نعيشو معاهم ». وهم يرون، أسوة برأسهم، أنّ النّجوقراطيّة (نسبة إلى النّجاة الّتي تنادي بها فرقتهم) هي النّظام السّياسدينيّ (نسبة إلى السّياسة والدّين) الوحيد الكفيل بإنقاذ البلاد من براثن التّسيّب والانحلال
والحقيقة أنّ رأس الفرقة النّاجية لا رغبة له في شيء من كلّ الكوكتيلات السّابقة لأنّه لا يؤمن إلاّ بالأناقراطيّة (نسبة إلى الأنا والدّيمقراطيّة) الّتي أجلسته على عرش الفرقة النّاجية لعقود متواصلة، لا ينازعه في هذا المنصب أحد إلاّ أهوى عليه بدبّوس ردعه فأباده في طرفة عين. فليغنّ كلّ على ليلاه، فلن يغنّي هو إلاّ على أناه، ولا ضير إن سربلها تمويها في جلباب الدّيمقراطيّة الفضفاض لفترة من الزّمن. ألم يقل المصطفى، عليه السّلام، إنّ الحرب خدعة؟ فلا جناح على المؤمن إنّ خدع وغدر وأزهق الأرواح في سبيل إعلاء كلمة الحقّ
وبقي سؤال لا بدّ من طرحه على من جازت عليهم لعبة التّوافق، واعتقدوا، حقيقة أو طمعا، أن « عرس الدّيمقراطيّة » ليس من قبيل أضغاث الأحلام: عمّا ستتمخّض هذه « الشّكشوقراطيّة » الهجينة الّتي قصرت طموحها على إدراجنا في الأكفان أحياء؟ أنا أقول: لا شيء يقينا. فماذا تقولون أنتم؟ وللدّقّة أضيف أنّني قصدت أنّه لن يخرج من هذه « الشّكشوقراطيّة » شيء مفيد لتونس وأهلها، ولكن سينتج عنها شيء مّا لصالح « الأناقراطيّة الفرقنجويّة »، باعتبار أنّ الفرقة النّاجية تتجسّد في رأسها الملهم، فهو هي وهي هو. وعلى ضوء هذا المعطى الهامّ يمكن القول إنّ توقيت « الاعتراف »، الّذي تفتّقت عنه عبقريّة الزّعيم الإسلامسياسيّ الفرقنجويّ، ليست بريئا بالمرّة. ونرجّح أنّ الرّجل أراد أن يحصل بالمداهنة والخبث (يسمّيان اصطلاحا تقيّة، وهي حلال مائة في المائة لأنّها من أساليب الحرب الشّرعيّة) على ما لم يحصل عليه بشارعقراطيّته (نسبة إلى الشّارع والدّيمقراطيّة) الرّكيكة الّتي أثبتت محدوديّتها في باردو
رأس الفرقة النّاجية أراد باعترافه المثير هذا أن يبتزّ شريكه في التّوافقرطيّة السّمجة ليقوم بتنازلات إضافيّة لصالح « التّوافق » الّذي لم يكلّف الفرقة النّاجية قطرة من عرق واحدة، وكلّفت شريكة وحدة حزبه، ومستقبل نجله « السّياسيّ »، وفوق هذا كلّه مستقبل « الوطن » الّذي أدار له « الشّيخان » ظهريهما منذ اختارا لهما « التّوافق » نهجا. ومجمل القول أنّ رأس الفرقة النّاجية يريد أن يلتفّ على تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة »، فيما يتعلّق خاصّة بقانون الإرث لأنّه لبّ الموضوع، فيلغيه « توافقا » بعد أن أعيته الحيل في إلغائه قانونا عبر « الاستفتاء » الّذي كان اقترحه سابقا، ولم يعرّج عليه بكلمة واحدة في « اعترافه ». وقد شجّعه على اعتماد هذا « التّكتيك » ما لمسه في خطاب شريكة، يوم 13 أوت الماضي، من « تراجع » لصالح « القانون » المقترح، وذلك بنزع طابع « النّفاذ » عنه، ومساواته بالقانون الشّرعيّ الّذي صيغ هذا القانون الجديد خصّيصا لإلغائه
لقد تعوّد رأس الفرقة النّاجية أن يحصل على ما يريد بكلّ الوسائل في إطار التّوافقرطيّة الاسميّة. وهو واثق من الحصول على ما يريد لأنّه على يقين أن النّظام القائم هو ديتيوقراطيّ بامتياز، يقرّ دستوره بإسلاميّة الدّولة، وهو مطالب لذلك بالرّضوخ لإرادة « حماة الشّريعة » الّذين اختاروا لهم خيمة الفرقة النّاجية بيتا يحتمون فيه من فجور العلمانيّة وشططها، وفسق الحداثة وتشدّدها، وألاعيب الصّليبيّة الصّهيونيّة الخبيثة وسمومها. وبما أنّ الرّجل تعوّد على تحقيق أهدافه، وأنوف خصومه راغمة في الوحل، فقد خرج على التّونسيّين بهذا « الاعتراف »، محذّرا ومهدّدا في نفس الوقت، ولسان حاله يقول: الأفضل أن تتراجعوا عن « ضلالكم » من تلقاء أنفسكم، وإلاّ فإنّني سأضطرّ إلى اعتماد أساليب أكثر إقناعا، ومنها تلك الّتي لوّح بها أحد أقنعة الرّعب من أتباعه، أي قطع الأرزاق وإضرام نار حرب لن تبقي ولن تذر. وهذا لا يسمّى « ديمقراطيّة »، بل يسمّى « ابتزازقراطيّة »، القائمة على الابتزاز (والابتزاز عنف ممنهج، يمارس عن قصد وسبق إضمار لإخراج الباطل في لبوس الحقّ) أساسا، والدّيمقراطيّة تمويها وخداعا

فرج الحوار