العبرة بالخواتيم وليست بالنوايا الطيبة فقط

ليس من العسير على المتابعين للشأن التونسي بشكل عام وحتى المختصين منهم من رجال القانون والسياسة أن يدركوا أن إدارة الشأن العام ببلادنا تتم على قاعدة جديدة واستثنائية لم تتفطن إليها على ما يبدو كثير من الشعوب والأمم، ولم تجرّبها الديمقراطيات العريقة وهي قاعدة «الفعل وردّ الفعل» إن جاز القول بين أركان منظومة الحكم الواحدة

وقد اكتشفنا هذه القاعدة ووقفنا على تمظهراتها وحدودها وخطورتها من خلال الأزمة التي نشبت منذ إعلان نتائج انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والتشريعي وتفاقمت بمرور الايام وتركيز ما يقال اليوم أنها «رئاسات ثلاث»، رئاسة للجمهورية يقودها «مستقل»، ورئاسة للبرلمان يقودها رئيس حزب، ورئاسة حكومة مرهونة ومرتهنة لهذا الحزب وشركائه الذين منحوه الثقة رغم كونه لم يكن خيارهم 

والطريف والمؤلم حقا في نفس الوقت في تجربتنا الراهنة، أن ديناميكية الفعل وردّ الفعل تتعاظم وتستعر رغم وجود شبه قطيعة أصبحت مكشوفة بين هؤلاء الرؤساء فلا لقاءات ولا اجتماعات ثنائية أو ثلاثية منذ زمن بعيد، وإن كان الأمر طبيعيا ربما بين رئيس مجلس نواب الشعب والرئيسين الآخرين فإن الغريب هو انعدام التواصل المباشر بين رأسي السلطة التنفيذية وهو تقريبا ما يؤجج التدافع والعراك

لقد وقفنا خلال الايام الماضية على خطورة سياسة الفعل وردّ الفعل في أداء ساكني قرطاج والقصبة حين تسابق الرجلان وتنافسا وتدافعا حول «التحوير» و«التلاقيح» وزيارة المؤسسات الرمزية الدينية وكذلك الحديث عن تبعية القوات الحاملة للسلاح المدنية والعسكرية

أمس الأول، الثلاثاء 4 ماي 2021، شاهدنا فصولا جديدة في «عركة» منظومة الحكم، رئيس البرلمان يستقوي بأغلبيته وينجح في جرّها الى المصادقة على مشروع القانون الأساسي المتعلق بتنقيح وإتمام القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية بعد التداول فيه مرة ثانية إثر ردّه من رئاسة الجمهورية وذلك بموافقة 141 نائبا وتسجيل 10 محتفظين و15 معترضين عليه

وبناء على هذه الخطوة أصبحت الكرة في ملعب رئيس الجمهورية لختم مشروع القانون وإذا رفض ذلك باعتبار أن أسباب الرفض الأصلية ما تزال قائمة فإن خصومه سيتهمونه بتعطيل إرساء المحكمة وتعريض مستقبل الديمقراطية للخطر وهذه التهمة يمكن أن يحوّلها أصحابها أيضا إلى «خطر جسيم» يستوجب التنحية وهذه وفق بعض المتابعين «النية» الحقيقية المبيّتة وراء التسريع بنصب المحكمة الدستورية

رئيس الجمهورية لم يبق مكتوف اليدين، وكانت ردّة فعله منتظرة في نفس اليوم، فاستقبل رئيس الحزب الوحيد الذي كان واضحا وصريحا في معارضة ما حصل في البرلمان وهو حركة الشعب ( الصورة أعلاه ) التي اختلفت هذه المرة مع شريكها في الكتلة الديمقراطية أي التيار الديمقراطي

ووفق رئاسة الجمهورية فإن اللقاء «خُصّص للتطرق للأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسبل الخروج منها بتقديم مقترحات عمليّة وناجعة تتوافق مع واقع التونسيين وتلبّي تطلّعاتهم» وأبدى رئيس الدولة لضيفه : استعداده لتصوّر للحوار للخروج من هذا الوضع الذي تعيشه تونس… على أنه لا بدّ أن يكون حوارا مختلفا عمّا عرفته بلادنا في الأعوام الماضية، ويجب البحث عن حلول جدّية لقضايا الشعب التونسي لأن تشخيص المشاكل متفق عليه أما ما هو موضوع خلاف فيتعلق بالنزاعات المعلنة وغير المعلنة حول المناصب والامتيازات

هكذا لخّصت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية ما أراد سيادته إيصاله للجميع ولنقل صراحة لخصومه المتربصين به بين باردو والقصبة مع الاستهلاك الدائم لوصفة الارادة الشعبية التي يجب أن تنبع منها الحلول

وبشّرنا ضيف الرئيس أمس في إطلالاته الإعلامية بأن لقيس سعيّد : « مبادرات جاهزة » سيُحيلها قريبا للبرلمان معتبرا أن ما حصل تحت قبته هو : من قبيل الألعاب الصغيرة لراشد الغنوشي

اللافت أن أمين عام حركة الشعب رغم الحظوة والإطراء والكلام الجميل، لم يحظ بالسبق وهو يجهل موقف رئيس الجمهورية بخصوص ختم القانون من عدمه، ولحسن الحظ فإنّ رئيس الجمهورية اعلمه بان لديه مبادرات جاهزة على غرار مبادرة مؤسسة فداء والمجلس الأعلى للتربية والصلح الجزائي وقال له انه سيحيلها قريبا إلى البرلمان كما تطابقت وجهات النظر بخصوص : الحوار الوطني المعقد

إننا نتطلع الى أن ينزل رئيس الجمهورية فعلا من الكوكب الذي تحدّث عنه ذات يوم وأن يضع قدميه على أرض تونس التي يكابد شعبها أزمة صحية ضاعفت من أزمته الاقتصادية والاجتماعية وجعلت المواطن التونسي اليوم مهدّدا بالموت فقرا وجوعا وكمدا إذا نجا من الكورونا

ووضع القدمين على الأرض مهم للغاية ففيه اعتراف واحترام للدستور الذي أفرد رئيس الجمهورية بصلاحيات محددة، وبالإضافة إلى ذلك فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وبالتالي لا يمكن أن ننتظر من ساكن قرطاج بعد عام ونيف من مباشرة الحكم أن يأتي بما عجز عن الإتيان به من قبله 

وليطمئن سيادته الى أن «إرادة الشعب» التي خرجت من صناديق الاقتراع ستبقى قائمة الى نهاية العهدة الانتخابية في 2024 خصوصا مع استمرار غياب المحكمة الدستورية واستمرار بقية مكونات المنظومة مرابطين في مواقعهم في البرلمان وفي القصبة

بقلم مراد علالة