أحلام شبابنا وآلامهم

قضيت أزيد من خمس وثلاثين سنة في التدريس كنت خلالها على اتصال مباشر بفئات من شباب تونس وهو ما سمح لي بأن أكوّن معرفة لا بأس بها بأحوالهم وتوجهاتهم وبأن أعايش حالات الصعود والحماس والأمل التي تميّز الشباب عادة، وحالات الخمول والإحباط واليأس التي تطرأ عليه في وضعيات تنسدّ خلالها أمامه الآفاق وتقلّ فرص النماء وتتهاوى موارد الأمل. أعترف بأن الخمس سنوات الأخيرة قد بلغ خلالها منسوب إحباط الشباب مستوى غير مسبوق، لم يبلغه حتى خلال السنوات الأخيرة من حكم بن علي، عندما كان شباب الجامعات قادة الثورة عليه. إن علامات فقدان الثقة في الجميع وفي كل المنظومة الوطنية بمؤسساتها وأشخاصها وأنظمتها وتلاشي الحماس لكل شيء وفقدان الاهتمام بأي شيء ظاهرة بوضوح على الغالب الأعمّ من شبابنا هذه الأيام، وأنا أعتبر هذه الوضعية من أكثر تعبيرات الفشل العام الذي انتهت إليه منظومة « الثورة » كارثية. تدفعني هذه الحال باستمرار إلى التساؤل: إذا كانت هذه حال شباب الجامعة فكيف هو حال مئات الآلاف ممن يغادرون سنويا مقاعد الدراسة مكرهين أو فاقدي الثقة في قدرة المدرسة على تغيير أوضاعهم أو فاقدي الإيمان بجدوى ما تقدمه إليهم أو جاهلين بأهمية المعرفة في صنع الذات الإنسانية؟ ويأتيني الجواب من عشرات الآلاف من شبابنا ممن ألقوا ويلقون بأنفسهم سنويا في البحار وهم لا يعلمون إن كانوا سينجون من الغرق ومن أن يتحولوا فريسة لوحوش البحر والبرّ معا، يشدهم وهم حلم عجزت بلادهم عن أن تمنحهم ما يغرس فيهم الإيمان بإمكانية تحقيقه وبالقدرة على تحقيقه في وطنهم. يأتي الجواب بطريقة أخرى أعنف وأوحش من آلاف آخرين من الشباب وجدوا أنفسهم في تنظيمات إرهابية يشاركون في ترويع الأبرياء ومن ليس لهم بهم سابق معرفة وتقتيلهم، إنهم هؤلاء الذين لا يملكون أية حصانة تحميهم ممن احترفوا التجارة بالدين خدمة لمصالح أسيادهم ولا يجدون شيئا يشدهم إلى الحياة المستقرة أو يمنحهم أملا في غد أفضل. ولا تتوقف مأساة شبابنا عند هذه الفئات، بل إن بلادنا، على عكس كل بلدان العالم، تدفع النخبة ذات الكفاءات العالية من شبابها دفعا مقصودا أو غير مقصود إلى « الهرب » من بلادهم بعد أن صاروا لا يرون مستقبلهم ولا يتصورون نجاحهم إلا في مكان آخر من العالم غير هذه البلاد، مئات من الأطباء الشبان سنويا يغادرون تونس نحو وجهات يلقون فيها الترحيب والاحتفاء بكفاءاتهم وتقديرها المادي والاعتباري، يحصّلونها جاهزة لم ينفقوا في تكوينها فلسا، وكذلك الأمر مع مئات من المهندسين في كل الاختصاصات ممن تستقطبهم سنويا أكبر المؤسسات العالمية، ولا أعرف ما إذا كان الشعب التونسي يعرف كم يكلفه تخريج طبيب أو مهندس واحد من مقدراته ومن ثروته الوطنية، حتى يقدر حجم الخسارات التي منيت بها بلادنا بخروجهم والتي ستمنى بها أكثر وأكثر في قادم السنوات عندما نكتشف الفراغ الذي ستسبّبه هذه الموجات من هجرة الكفاءات، وساسة هذه البلاد وعنوان فشلها المتراكم منذ عشر سنوات يتصرفون مع هذه الكارثة بكثير من راحة البال وكأنهم وجدوا فيها مخرجا من الحرج الذي تسببه لهم بطالة حاملي الشهادات حتى بدا وكأن اختيارهم هو تشجيعا لهذه الهجرة

أمثلة كثيرة من استهانة هذه المنظومة بهذا الشباب الذي كبر في إطارها وهو الذي ساهم بثورته في وجودها وكان يحلم أنها ستمنحه الشغل والحرية والكرامة رواها لي المعنيون بالأمر، أحدهم حصل على شهادة عليا في جامعة أجنبية وعاد إلى تونس وهو يحلم بمستقبل زاهر بفضل شهادته، بعد سنتين اقتنع أن لا حظ له هنا وشرع في البحث عن أفق آخر يقدر كفاءاته ووجد سريعا ما يبحث عنه واحتاج إلى معادلة شهادته الأجنبية بشهادة تونسية تقدم بطلب في الأمر إلى وزارة التعليم العالي بتاريخ 5/11/2019 وظل يلهث بين مقر سكناه بولاية المنستير ومقر الوزارة بتونس إلى حدود شهر جانفي 2021 عندما أعلموه بأن الملف ضاع وكانت قد ضاعت قبله الفرصة التي سنحت له خارج البلاد ، فأودع لديهم ملفا آخر بتاريخ 13/01 / 2021 وعندما عاد إليهم خلال الأسبوع المنقضي أعلموه مرة أخرى أنهم لم يعثروا على ملفّه

الحالة الثانية لشاب نابه تحصل على الماجستير في اختصاصه وكان ثانيا على دفعته بعد فترة من البطالة اكتشف خلالها أنّ من كانوا دونه مستوى انتدبوا في مؤسسات عمومية، باع والداه « اللي وراهم واللي قدامهم » واقتنيا له قطعة أرض من أجل مساعدته على إقامة مشروع ولسوء الحظ كانت في موقع حدودي بين بلديتين، تخيلوا ظل يلهث بينهما وكل منهما يدفعه إلى الآخر طيلة ثمانية أشهر فقط من أجل الحصول على شهادة موقع حتى يعرف إلى أي من البلديتين يتوجه، ومازال يلهث منذ 2018 إلى اليوم وراء الإجراءات الإدارية من كل الأصناف

إن البلد الذي لا يقدر شبابه ولا يحافظ على كفاءاته ويغمض العين عن تسربهم من البلاد بل ويشجعهم على الهجرة، والذي يستهين بأحلام شبابه وبطموحاتهم ويدفعهم دفعا إلى الإحباط واليأس هو بلد منذور لمستقبل مظلم، فمتى ستنزاح منظومة الفشل هذه عسى أن يستعيد شبابنا الأمل والثقة في بلادهم ؟

بقلم زهية جويرو