المكي لـ «الصحة»، التعويضات لـ «الأتباع» والحكومة غنيمة لـ «الحلفاء»… النهضة تصدّر أزمتها

بخلاف بقية الأحزاب العريقة والناشئة بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، عرفت حركة النهضة الإخوانية   درجة هامة من التماسك والصمود رغم تهرئة تجربتي الحكم والمعارضة بوصفها تنظيما مزدوج المواقع والمهام والسلوك والخطاب، ويعزو البعض ذلك الى الطبيعة العقائدية والتركيبة الهرمية للتنظيم بزعامة الشيخ / المرشد، فيما يرى البعض الآخر أن أسبابا كثيرة خدمت النهضة منها ضعف خصومها والدعم الخارجي من أصدقائها في ما يعرف بمحور التنظيم العالمي للإخوان المسلمين دون أن ننسى الطبيعة المحافظة للمجتمع التونسي

وقد أتقنت النهضة كجماعة إسلامية «محترفة» التقية وازدواجية الخطاب وخصوصا تصدير الأزمة الداخلية وخلط الأوراق بل وبعثرتها لالتقاط الأنفاس وتلهية الداخل والخارج بالمعارك الجانبية وهو ما سجلناه هذه الأيام على سبيل المثال بتسويق «بدعة» الحكومة السياسية المفتوحة للخصوم، والترحيب بفتح قنوات اتصال مع رئيس الجمهورية عبر أحد الابناء «الضالين» للحركة، وإمهال رئيس الحكومة الحالي حتى 25 جويلية الجاري لتفعيل صندوق الكرامة وصرف التعويضات لأبناء التنظيم، وتسويق عودة عبد اللطيف المكي لوزارة الصحة وهو «الثائر» على «الشيخ» وأحد أبرز المائة قيادي نهضاوي الغاضبين الموقّعين على تلك العريضة الشهيرة قبل زهاء السنة في أفق معادلات المؤتمر القادم

على أن المؤشرات الموضوعية سواء منها المتصلة بالحاصل الانتخابي الذي تناقص باطراد منذ أوّل استحقاق انتخابي في 2011 وصولا الى 2019 مرورا بطبيعة الحال بانتخابات 2014، أو تشكّل مزاج شعبي عام مناهض للنهضة ولرئيسها بشكل خاص مثلما عكسته استطلاعات الرأي على علاّتها والشعارات التي رفعها المحتجون في أكثر من مناسبة هذا العام، أو احتدام الصراع على خلافة راشد الغنوشي وقطع الطريق أمامه للظفر بولاية ثالثة بعد تعديل القانون الأساسي للحركة وعقد مؤتمرها الحادي عشر، جميعها مؤشرات تبرز جسامة التحدّيات الداخلية وعمق الأزمة الخاصة التي تعصف بالجماعة وتضاعف مسؤولية «الشيخ» المؤسس في الإنقاذ والإبقاء على التنظيم وعلى قيادته في وضع مريح أيضا

ليس ذلك فحسب، لقد أظهرت الحركة قدرة كبيرة على التماسك بفعل مركزة القرار باسم «الشيخ» المؤسس وحوله، وهو كما يعلم الجميع صاحب الكثير من «الأوراق» الرابحة أبرزها بالتأكيد مصادر الدعم السياسي والمالي وأذون الصرف كما يقال

ومن بين أبرز «التقنيات» أو التكتيكات التي تلجأ اليها النهضة للتنفيس والتقاط الأنفاس تصدير الأزمة الداخلية كما أسلفنا والإيهام بأن التنظيم منسجم ومتماسك بل ومبادر ومحرّك للمشهدية العامة ومدافع شرس عن حقوق ومنافع الأتباع

إن المتابع للشأن النهضاوي يحتاج صراحة لكثير من الجهد و«وسع البال» بلغة التونسيين لفهم العلاقة بين ما يقوله رئيس الكتلة عماد الخميري من أن النهضة مازالت داعمة لحكومة هشام المشيشي وفي نفس الوقت ما يقوله هو نفسه وكثير من قادة التنظيم على غرار رئيس مجلس الشورى عبد الكريم الهاروني من أن الخيار الأفضل هو التوجه إلى حكومة سياسية لتتحمل الأحزاب والكتل البرلمانية المشاركة فيها المسؤولية كاملة في اتجاه خدمة مصلحة البلاد والشعب وهم يذكّروننا هنا بساكن القصبة السابق الحبيب الصيد الذي شكروه صباحا وسحبوا منه الثقة بعد صلاة العشاء 

ويعزف القادة بشراهة سنفونيات الغزل في أخيهم عبد اللطيف المكي من خلال صب جام غضبهم على وزارة الصحة والوزير الحالي والمقارنة بين الموجة الأولى والموجات التالية للوباء ويطالبون كما فعل العجمي الوريمي مثلا برصد اعتمادات إضافية لفائدة وزارة الصحة، ومعالجة «الغياب التام» للوزير الأمر الذي جعل الحكومة : مشلولة وغير قادرة على مجابهة الأزمة ولا نستطيع الاستمرار هكذا… ولا بد من حل

إن عودة المكي الى الوزراة يعني «مكافأته» وإخراجه مبدئيا على الاقل من دائرة رهانات وترتيبات وسباقات المؤتمر القادم خصوصا وقد بدأ الرجل منذ مدة متحمسا للتوزير أكثر من تحمل مسؤولية التنظيم وهو ما سيمنح بعض الراحة والأريحية لـ «الشيخ» في هندسة المؤتمر وترتيب الخلافة إن اقتضى الأمر لمن هو أقرب اليه بكل المعاني.
وتبقى النقطة الثالثة التي قد تعود بالوبال على الحركة وما بقي من جماهيريتها وشرعيتها في الشارع التونسي وهي مسألة التعويضات وطرحها بحدّة في هذه المرحلة التي يهدد فيها وباء الكورونا حياة البشر ولا نخال عاقلا يقترح تخصيص الجهود وتحويل الموارد المادية لغير الحرب على الوباء

لقد أخطأ عبد الكريم الهاروني حين قال أن النهضة لا تخشى أي سيناريو بما فيها الذهاب لانتخابات مبكرة وأخطا أكثر حين طالب رئيس الحكومة التي يدعمها –الى الان على الأقل- بتفعيل صندوق الكرامة قبل 25 جويلية 2021 وهو موعد يتزامن أولا مع عيد الجمهورية وثانيا مع الذكرى السنوية لاغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي في 2013 على أيدي المجموعات الارهابية

هي رسالة للقواعد النهضاوية وهي أيضا إحراج وتوريط لقوى سياسية من بين الحلفاء والخصوم ممن يؤيدون العدالة الانتقالية بشكل عام وجبر الضرر تحديدا وقد أخطأت النهضة في التوقيت على الاقل وفي الشكل لأن انتقادات جمّة وتقييمات سلبية كثيرة رافقت المسار وبالأساس الهيئة التي أشرفت عليه بقيادة سهام بن سدرين والتي فشلت في إنجاحه وبالتالي يصعب جدا إقناع التونسيين بوجاهة «التعويض» المادي في الوقت الحاضر بل ويمكن اعتباره سقوطا أخلاقيا لقيادة الحركة في ظرف يهدد فيه الوباء حياة الناس في ظل عجز منظومة الحكم برمتها في إدارة الحرب على الكورونا علما وأن الجماعة الاسلامية كانت وما تزال العمود الفقري لهذه المنظومة

بقلم مراد علالة