التونسيّون في مواجهة الوباء رغم تقصير دولتهم

أعلنت الدكتورة نصاف بن علية أن المنظومة الصحية في تونس انهارت ولم تعد قادرة على مواجهة الوباء. في مستشفى باجة الجهوي مثلا ومن خلال معاينتي لتطور الوضع الصحي منذ نهاية شهر جوان لاحظت أن الدولة التونسية لم تقدم شيئا للمواطنين بالجهة فقد وجدوا أنفسهم في مواجهة الموت وفي مواجهة انقطاع التيار الكهربائي والماء وفي مواجهة الحرائق التي اندلعت بعمدون في تزامن مع ارتفاع الإصابات وانتشار العدوى. وقد رأينا في الأيام الأولى الأطباء بلا معدات والمرضى بلا أسرة يتلقون العلاج تحت أشعة الشّمس الحارقة في مرآب السيارات، كما رأينا تونسيا يسقط بالقيروان قرب المستشفى ليموت على الأرض دون أن يتلقى العلاج. لقد تبين للعيان أن الدولة التونسية مسؤولة عن الانهيار الذي لاحظه الجميع وسببه تقصير القائمين على الدولة في ضمان حق الحياة وحق التداوي وحق الموت الكريم

قصرت الدولة التونسية في حق صحة المواطن التونسي وخاصة في جهات كباجة وزغوان والقيروان يعلم الحميع أنها مهمشة بسياسات تعود إلى عقود مضت وأن ذلك التهميش له أسباب اقتصادية وثقافية، وقصرت الدولة في حق المواطنين لأنها لم تستدرك التهرئة المتعمدة للمستشفيات الجهوية والتي انكشف في مرات عديدة لا إنسانيتها وتخلفها الشديد حيث منذ أمد في مستشفى جهوي كمستشفى باجة لا نجد آلة كشف بالأشعة ولا ابسط المعدات في تفقير ممنهج لصالح الخوصصة ولصالح لوبيات التداوي في القطاع الخاص في الجهة وخارجها. غير أن الحرب على الكوفيد اثبتت عقم هذا المنهج وخطره ولا انسانيته وحاجة الدول إلى صحة عمومية متينة وإلى مواطن كريم تضمن له بلاده حق التداوي وحق الموت الكريم. وهو ما لم يتوفر لكل التونسيين في محنتهم هذه

لقد قصرت الدولة وقصر السياسيون الذين تداولوا على حكم دواليب الدولة منذ بداية الجائحة أي منذ تسلم المكي وزارة الصحة والحكومات التي تعاقبت ووزراء الصحة الذين تعاقبوا بعده والذين لم يضعوا خطة حقيقية لتجنب الكارثة ولم يجلبوا التلاقيح في الموعد المناسب ولم يقوموا حتى بما يتوجب عليهم إزاء الشعب من توعية. ولقد تعالت أصوات من داخل نخبة تدعي الحداثة تتهم شعبها بالجهل والتقصير ولكن هذه التهم ليست صالحة إلا لنزع الشعور بالذنب الذي يقض مضاجع الطبقة القادرة على الاختفاء في البيوت المكيفة حالما تنتهي الموجة، أما أولئك الذين تم التقصير في حقهم لعقود طويلة وتم تعميتهم إعلاميا لتبسيط الوباء وتهوين مخاطره وتم اعتبارهم مجرد أرقام لا قيمة لها وهم الذين كانوا مجبرين على طلب العيش بالعمل اليومي او التجارة البسيطة أو التنقل في الوسائل المتردية المكتضة أو التوجه للمعامل التي تبتلع عرقهم وشقاهم فإن هؤلاء ليسوا قادرين كل القدرة على الحكم بالعقل على الأمور كما ينتظر منهم خاصة أن عقولهم تلاعب بها إعلام خاصّ وجّههم للاستهانة بالمرض ومخاطره لصالح العجلة الاقتصادية التي لا تدور لصالح الفقراء الكادحين بل لصالح شركات لا ترى في الناس سوى الربح الأقصى والسريع لا غير

كل هذا الواقع لا ينفي مسؤولية المواطنين عن حفظ حيواتهم ولا مسؤوليتهم لوعي الرهانات المستقبلية، ولا تقصير الطبقة السياسية في مسؤوليتها ولا يعني الاستسلام للواقع المتهاوي بل لقد ارتفعت في جهات عديدة منكوبة ومتروكة إرادة المجتمع المدني ففي باجة مثلا تحرك فاعلون وكرسوا جهودهم لجمع التبرعات وتوعية الناس وتوفير الآلات والاكسيجين وتشبيك الجهود، حتى أنك تجد أبطالا حقيقيين كإلياس العسالي وكحاتم القلعي وعبد الستار العمدوني وأستاذات رائعات كونوا مجموعة سموّها « نعم يمكننا إنقاذ باجة » فجمعن التبرعات ووفرن للمستشفى ما كان الأطباء بحاجة إليه وتجد النبل والتضامن حتى من نساء عاملات بالساعد يتطوعن لطبخ الأكل للمرضى وتنظيف المكان، وشباب متمدن يعقم ويساعد على تخفيف الوطأة على المرضى. إنهم أبطال لأنهم بجهودهم الخاصة وبتطوعهم وووعيهم بمسؤولياتهم تجاه أهالي جهتهم تمكنوا من كسب ثقة المتعاطفين الذين هبوا لمساعدة المستشفى ومرضاه

إن مثال تعاطي أبناء باجة مع الأزمة يكشف عن أمرين مهمين: الأمر الأول أن الدولة مقصرة في حق الناس وأن السياسيين لم يقوموا بواجبهم وأنه على الشعب أن لا ينسى أبدا ذلك في الانتخابات القادمة. والأمر الثاني عظمة إرادة الحياة وعمق التضامن الإنساني وجدواه. لكن جهود القوى الحية في جهة ما لا يمكن أن تغني عن قوة الدولة وسياسة الحكومة ولذلك فإن على المسؤولين أن يتحملوا مسؤولياتهم فكل ضحية دمها في رقبتهم. وعلى من يستغل حزن الشعب ووجعه وانكبابه على دفن ضحاياه الذين بلغ عددهم 16 ألف وأكثر ليطالب بتعويضات قبل يوم 25 جويلية أن يخجل من نفسه أولا ويخشى حساب شعبه ثانيا فالناس يموتون بسبب نقص الاوكسيجين والتجهيزات والفئات الضعيفة في جهات فقيرة تخلت الدولة عن تعويض تجارها وعملتها وفقرائها كباجة أو القيروان أو غيرهما لم يعودوا قادرين على الصمود أكثر في بيوتهم وبدؤوا يطالبون بالعودة إلى العمل لكسب خبز يومهم

إن التونسيين قادرون على تخطي الأسوأ بتضامنهم وإرادتهم للحياة وهم فعلا يبذلون جهودهم ليعيشوا وينقذوا أحباءهم ويخففوا المصاب عن المرضى ولكن الوضع الذي وصلنا إليه والناتج عن عقود من الاستخفاف بالمسؤولية وعن حكم العديمي الكفاءة للدولة وتغلغل الإسلاميين الذين لا يملكون سوى سردية البكاء والتظلم من أنظمة الاستبداد ليستغلوها للتمكين لجهلهم ولصالح قوى أجنبية تعادي المصالح الوطنية. إن من المبكيات حقا ان يقيم الغنوشي ببيته عشاء فاخرا ومائدة شهية لتقاسم السلطة. ففي نفس الليلة التي يموت فيها ما ينيف عن مائتي تونسي دفعة واحدة وآلاف العائلات لا تجد ما تأكله بسبب الحجر وفقدان مواطن الشغل يعدّ لضيوفه عشاء مضمّخا بدموعنا وأوجاعنا وحدادنا على الأحبة.
فتحية لكل الذين تجندوا وتطوعوا في الحرب على الوباء وأما الذين لا يفكرون سوى في مزيد الربح والتمكين فحسابهم تحت التوتة كما يقول المثل الشعبي في باجة الصامدة رغم خذلان السياسات العمومية

بقلم زينب التوجاني

صدر بجريدة الشروق