الاستعمار يطرق باب تونس

تتعالى من حين لآخر، في هذه الفترة، أصوات وتسريبات حول شبهات التخابر مع جهات أجنبية يصل بعضها إلى اتهام أشخاص وأحزاب بتلقي أموالا طائلة من دول أجنبية أو بتلقّي « نصائح » أو « أوامر » من سفارات بعض الدول. تلك هي طبعا اتهامات على القضاء أن يُحقق فيها وأن يقول كلمته بخصوصها

لكن الغريب في هذه الظاهرة هو أن الرأي العام لم يُفاجأ بمثل هذه التهم. ورغم استيائه منها، فكأني به كان ينتظرها

فالبلاد التونسية أصبحت، بفعل حُكّامها، في أسفل السافلين سياسيا واقتصاديا وأخلاقيّا. وأضحت الوطنية والنزاهة وخدمة الصالح العام آخر ما يُفكّر فيه قادتها الذين انهمكوا في حروبهم الشخصية، تاركين الشعب وصحته ومصيره في ذمة سيدي محرز وتتقاذفها الرياح

تونس التي كانت، إلى حد تاريخ ليس ببعيد، يُقرأ لها ألف حساب في المحافل الدولية، أصبحت في الدرك الأسفل في كل المجالات، بل وأصبحت محل استهزاء الدول الأجنبية والمنظمات الدولية وخاصة منها المالية. غير أنها، ورغم انهيار مؤسساتها السياديّة، تبقى تلك البلاد التي تحظى بموقع جيو-استراتيجي مُتميّز باعتبار انتمائها في ذات الوقت إلى العالم العربي والعالم الإسلامي وخاصة إلى البحر الأبيض المتوسط، القلب النابض للكرة الأرضية. وحتى إذا انهارت اليوم، فإن مستقبلها لا يمكن إلّا أن يكون مُهمّا في السياسة الدولية. ولأنها اليوم تفتقد إلى سلطة مركزية محترمة، فلا عجب أن تُصبح أعين القوى الأجنبية عليها، ولا عجب أن يُسيل وضعها الحالي لعاب فرنسا وأمريكا وتركيا وقطر والإمارات

وحيث أن ديون البلاد تراكمت بشكل مُفزع جراء انعدام الكفاءة لدى مُسيّريها منذ عشر سنوات، فإن تونس أضحت في موضع أشبه ما يكون بوضعها سنة 1881، عندما عجزت عن سداد ديونها وأصبحت مُستباحة للغزو والاستعمار

وعندما تُلاحظ الدول القويّة، القريبة جغرافيا لتونس أو حتى البعيدة، والتي يهمّها استقرار هذه الدولة الذي هو من استقرارها، فإن التدخّل يُصبح مُحتملا. وهنا لا أعني طبعا التدخل العسكري المباشر الذي لم يعد مُباحا كما كان في القرنين الماضيين، وإنما أعني التدخل السري ديبلوماسيّا وماليّا

أشك أن القائمين على شؤون البلاد اليوم واعون بمثل هذه المخاطر على الجمهورية وعلى استقلالها وسيادتها. وإن كانوا واعين بها فذلك أخطر ألف مرّة. وفي الحالتين نجدهم يعملون كل يوم على إضعاف الدولة بكل ما أوتوا من جهد. وإلا كيف نُفسّر بعض الإجراءات الغريبة التي لن نذكر منها إلا تلك المُتّخذة مؤخّرا على سبيل المثال

فالانهيار المالي والاقتصادي الذي تشهده تونس، إلى حدّ العجز عن صرف المرتبات دون اللجوء إلى قروض جديدة، هو من صنع مسيّري الدولة. والجميع يعلم أن الكثير من قادتها نهبوا الخزينة العامة بتعلّة التعويض عمّا يُسمّونه ب »النضال » الذي لم يكن سوى عمليّات إرهابية، وذلك باسم مبدأ الغنيمة. والانهيار هو أيضا نتيجة الاقتصاد الموازي الذي حطّم الاقتصاد الوطني، علما بأن التجارة الموازية لم تقم الدولة بأي إجراء للحدّ منها، ممّا يجرّنا إلى الاعتقاد بأن بعض المسؤولين متواطئون في حمايتها

كما أن الحرب على الإرهاب بقيت في المستوى الأمني دون إرادة حقيقية للقضاء عليه سياسيا وجذريا. وإلا كيف نُفسّر التباطؤ المشبوه في التعامل مع قضايا على درجة كبيرة من الخطورة مثل قضايا الاغتيال السياسي وقضية الجهاز السري والغرفة السوداء وتسفير شباب تونس إلى جهاد القتال والنكاح. أليس التدخّل الأمني لحماية الوكر الإرهابي لجُهّال المسلمين في تونس دليلا على غياب الإرادة السياسية للقضاء على الإرهاب، إن لم نقرّ بوجود إرادة سياسية للحفاظ عليه؟

أما بخصوص التعامل بين الرؤساء فحدّث ولا حرج. فالصراع القائم بين الرئاسات الثلاث، بل بين الرئاستين الاثنتين، باعتبار الولاء التام الذي يُبرهن عليه كل يوم رئيس الحكومة لرئيس البرلمان، هو صراع على المواقع ولا أثر فيه لخدمة البلاد. وما التسميات الأخيرة في المناصب الإدارية الحسّاسة من قبل رئيس الحكومة إلا دليل على تبعيّته المفضوحة للإسلام السياسي من جهة، ودليل على مواصلة الإخوان في سياسة التمكين التي تجعل السلطة الحقيقية في البلاد بين أيدٍ : مضمونة

الانهيار الاقتصادي بفعل الحكّام، والرعاية السياسية للإرهاب، وسياسة التمكين، هي إذن العوامل الثلاثة التي أصبحت بلادنا بسببها « مُؤهّلة » للاستعمار الجديد، إن لم نقل بأن هذا الاستعمار يُوشك على الاستقرار في تونس، وبأن التخطيط له بدأ منذ عشر سنوات باعتماد خطّة القطرة-قطرة

وسواء كان الاستعمار قد استقرّ بعدُ أو هو في طور الإنجاز بالاستعانة بالأجانب، فإن الأنا المُتضخّم لدى القوى الحداثية أصبح، عن وعي أو عن غير وعي، تواطؤا مع الاستعمار، باعتباره الحاجز الأكبر في بناء الحركة الوطنية المناهضة له

بقلم منير الشرفي