الأستاذ الحبيب القزدغلي مرّة أخرى

لم يحظ الأستاذ الحبيب القزدغلي بشيء من الرّاحة، ولم يسلم من التّهم المتتالية، وخاصّة منها اتّهامه بالتطبيع مع الكيان الصّهيوني. ورافقتُ الرّجل أيّام العمادة في عهدتيها، وفي أنشطة أخرى سياسيّة ومدنيّة كما تابعتُ كتاباته التاريخيّة والفكريّة والثقافيّة فلم أقف يوما على رأي مناصر للكيان الصهيوني ولا على طعن في الثورة الفلسطينيّة وحقّ الفلسطينيين في العودة إلى فلسطين. وإنّما التبس على النّاس اقتناعه بالتعدّد الثقافي ببلادنا وبحقّ اليهود التونسيين في مساهمتهم في الإرث الثقافي الوطني بمسألة التطبيع … وأذكر ما علا من اللغط حول مشروع المتحف الذي رام إنشاءه لغاية تاريخيّة ما زلت أعتقد أنّها ضرورة علميّة

واليوم يتّهم الحبيب بنفس التهمة لمشاركته في مؤتمر جمعيّة مختصّة في تاريخ اليهود التونسيين، وهو المؤرّخ، ويتّهم لجلوسه إلى جانب أساتذة إسرائيليّين، ويؤاخذ على انتسابه إلى جامعة منّوبة حيث أمضى حياته العلميّة والمهنيّة؛ كما يطعن عليه لأنّه لقّب نفسه ب »العميد الفخري ». ورأيت ما رأيت من قرارات المجلس العلمي بكليّة الآداب بمنّوبة، ومن مجلس الجامعة… وقد تردّدت في إبداء الرأي خشية التدخّل في شؤون كلّيّة أحترمها وأحترم زميلاتي وزملائي بها. ولكنّ المسألة أضحت شأنا عامّا وحرصت من ثمّ أن أبدي ما يلي

1. الأستاذ الحبيب القزدعلي مؤرّخ يعتزّ به الاختصاص وزملاؤه. ويعتبر اهتمامه بالمسألة الثقافيّة اليهوديّة بتونس مجالا علميّا مجرّدا من كلّ المحامل السياسيّة لأنّي لم أقف شخصيّا على أيّ دليل على العكس

2. إنّ حضور المؤتمرات والندوات العلميّة أمر لا غنى عنه، بل مطلوب وعاجل، ولازم للترقّي العلمي. ولو عاملنا العلم معاملة ايديولوجيّة ودينيّة وسياسيّة لوجب أن نغلق الأبواب على الصادرات والواردات ولعاش الجامعيّ عقما قاتلا

3. من السنن الأكاديميّة المعروفة أنّ ينتسب الأستاذ وينسب حتّى بعد وفاته إلى الجامعة التي درّس بها وترقّى وأمضى بها عمره الطويل. ولم يحدث القزدغلي بدعة في الأمر. وهل يطالب اليوم بإسقاط جامعته من نسبه العلمي في ندوة أو مؤتمر حضره أساتذة من إسرائيل؟

4. أزعم أنّه لا يوجد مجال علميّ جدّي ولا ندوة دوليّة مهمّة لا يحضرها علماء يهود من إسرائيل وغيرها من البلدان الأوروبيّة والأمريكيّتين. فهل من اللائق أن يمنع علماؤنا وأساتذتنا وباحثونا منها؟

5. إنّ بين الأساتذة اليهود في إسرائيل وخارجها من هم معارضون للرؤية الصهيونيّة، بل منهم من هم أشدّ التزاما بالقضيّة الفلسطينيّة العادلة من غيرهم. أفمن الوجاهة أن يطعن في مؤرّخ تونسيّ لمجرّد حضوره ندوة شارك فيها أمثال هؤلاء الأساتذة اليهود؟

6. كنت أظنّ أنّ مجلسي الكليّة والجامعة بمنّوبة سيطالبان بدرجة « الأستاذ المتميّز » لعميدهم الأسبق الحبيب القزغلي، على غرار ما فعل مجلس كليّة الآداب بسوسة في شأن بعض الأساتذة الذين نالوا الدّرجة (محمد الناصر العجيمي، وعبد العزيز شبيل، والمنصف الوهايبي)، إيمانا بأنّ الكليّة هي التي تحتاج إلى كفاءاتها وهي التي تقترح الخطّة الشرفيّة عليهم… ولكن للأسف حدث العكس تماما بمنّوبة. وهذا ما أراه شخصيا خللا جرّاء تلبيس العلمي بالسياسي. بل هل يراعى في منح درجة « الأستاذ المتميّز » غير الكفاءة؟ أعتقد أنّ الكليّة والجامعة قد أحدثتا سابقة لا خير فيها. وأخشى أن يكون السبب راجعا في الأصل إلى خلاف قديم بين أساتذة كلية منّوبة وجامعتها

7. لم أر يوما أنّ الحبيب القزدغلي قد قدّم نفسه « عميدا فخريّا »، بل ما أشدّ تواضعه… وقد يكون حدث ذلك من باب التبجيل من منظّمي الندوة. فلنتوقّف زملائي المحترمين، عن جلد الذّات، ولنر في ما بقي من الأيّام فرصة أخرى لقبول الآخر والتعبير عن شيء من الإنسانيّة، وإن احتراما للعلم والمعرفة. أليس ببلادنا وبجامعتنا من المشاكل ما يعمّر كلّ شبر حولنا. ثمّ ما أحوجنا اليوم إلى نفوس عظيمة تسع الجميع برحابتها

المنصف بن عبد الجليل