مقدمة لا بد منها (2) : فِيمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ وَلَمْ يُقَلْ بِكُلِّ وُضُوحٍ

ما الّذي يجب أن يقال ضرورة ولم يقل بكلّ وضوح منذ لعلع صوت الإسلام السّياسيّ في ربوع تونس ينضح استفزازا وفجورا؟ ما لم يقل – وقد لا يقال أبدا – هو الأساسيّ في نظرنا، ويمكن إجماله في النّقاط التّالية

1 – الله – جلّ جلاله – لم يفوّض أحدا ليتكلّم باسمه لأنّه – سبحانه – ليس في حاجة إلى أن يتكلّم عنه أمثال راشد الخريجي والمسمّى العليمي وكلّ الكاراكوزات الملتحية المتجبّبة، أو المتكستمة خداعا وتقيّة. فإن كان لراشد الخريجي الغنّوشي وفرقته النّاجية من النّار تفويض من السّماء فليستظهر به أو فليكفّ عن الافتراء على الذّات الإلهيّة لأنّ كلّ من يزعم أنّه بكلمة الله ينطق اليوم إنّما هو أفّاك مفتر كذّاب
2 – الإيمان الدّيني ليس امتيازا روحيّا وفكريّا وفلسفيّا مقرون ضرورة بالحقيقة، أو بالأحرى بحقيقة لا يمكن دحضها. ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما تعدّدت الأديان وتناحرت فيما بينها
3 – الإيمان من الحاجيّات الإنسانيّة الثّابتة، ومضامينه مختلفة، وهو لا يقتصر – كما يحاول أن يوهمنا الإسلام السّياسيّ – على الإيمان الدّيني، فلا حياة بدون إيمان لأحد، كائنا من كان
4 – الإيمان في عرف الإسلام السّياسيّ والمنضوين تحت رايته هو في جوهره موقف إيديولوجيّ انتهازيّ يمتهن الذّات الإلهيّة والقيم الدّينيّة فيجعلها مجرّد خادم طيّع لأغراضه ومطامحه السّياسيّة
5 – الغلوّ في إظهار التّديّن والاعتداء على الغير « غضبا لله » (يزعم راشد الغنّوشي) وغيرة على شريعته « السّمحاء » (الّتي تحوّلت على أيديهم إلى لعنة ونقمة مسلّطتين على رقابنا ورقاب البشر في مختلف أقطار المعمورة) هي أعراض مرضيّة خطيرة تؤشّر على انخرام التّوازن النّفسي لمن يصاب بها، وتستلزم المتابعة من قبل أخصّائيّ في الأمراض النّفسيّة، ولا تستلزم – كما يتوهّم السّذّج من حقوقيّينا وسياسيّينا – المهادنة السّياسيّة، وغضّ الطّرف عن أعمال الشّطط الّتي يقترفها هؤلاء المرضى في حقّ التّونسيّين
6 – « الدّعوة » بدعة من بدع الإسلام السّياسيّ الّتي لا حصر لها، وليست أصلا دينيّا كما يحاول أن يوهمنا « الدّعاة »، المعتمدون والأدعياء والأمّيّون منهم على حدّ السّواء. والحقيقة أنّ « الدّعوة »، بمفهومها الإسلاميّ، انتهت بوفاة الرّسول لأنّها امتياز له وحده، لا يمكن بأيّة حال من الأحوال أن يرثها عنه غيره. لذلك يتصرّف « الدّعاة » تصرّف الأنبياء المرسلين
7 – المأثور النّبويّ يقضي بوضوح أنّ الإنسان أدرى بأمور دنياه، وهو ما يبطل مقولة « الإسلام دين ودولة » الّتي ابتدعها الإسلام السّياسيّ لغايات لا علاقة لها البتّة بحماية الإسلام من خطر المتربّصين به في الدّاخل والخارج
8 – الخطر المحدق اليوم بالإسلام، باعتباره منظومة روحيّة وحضاريّة وفكريّة وثقافيّة وليس بصفته مجموعة من الإجراءات الجزائيّة والسّلوكيّة والطّقوسيّة، مصدره الوحيد هو الإسلام السّياسيّ بكلّ أطيافه، لا فرق فيها بين مدّعي الاعتدال وممتهني العنف. وإن جاز الحديث اليوم عن عدوّ للإسلام، فالإسلام السّياسيّ هو إذن ألدّ أعدائه فهو الّذي يسيء إليه في كلّ لحظة وحين، داخليّا وخارجيّا
9 – التّديّن – والتّديّن كموضة مشهديّة لدى أشياع الإسلام السّياسيّ – ليس دليلا على حسن الأخلاق والاستقامة، وليس دليلا كذلك على انحراف غير المتديّنين عامّة، والملحدين خاصّة. وزبدة القول أن لا علاقة بين التّديّن والأخلاق إثباتا ونفيا
10 – المهمّ في الدّين هي مقاصده الكبرى وليست الأحكام الجزائيّة الظّرفيّة (المسمّاة حدودا) الّتي اقتضتها ظروف ظهوره التّاريخيّة. والجريرة العظمى للإسلام السّياسيّ أنّه اختزل الإسلام في هذه الإجراءات الشّكليّة، وهو ما يفسّر تعلّقه المرضيّ بالظّاهر (اللّحية واللّباس، ولباس النّساء بصورة خاصّة) دون الجوهر
11 – العدل من مقاصد الدّين السّامية، ومن مستلزمات العدل اليوم المساواة التّامّة بين البشر في جميع الحقوق والواجبات. وفي هذا الإطار نرى أنّ الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة كان أقرب إلى روح هذه المقاصد الإسلاميّة من الإسلاميّين عندما حال بقوّة القانون دون امتهان كرامة المرأة والحطّ من شأنها. وعليه فإنّ المطالبة اليوم بإعادة العمل بنظام تعدّد الزّوجات، ونظام الرّقّ (ولما لا، وقد وجد من طالب بذلك فعلا تحت قبّة المجلس التّأسيسيّ، بحضور رئيسه الاشتراكيّ اللّيبرالي المحترم؟) باعتبارهما من ثوابت الشّريعة الإسلاميّة تعتبر أوّلا جهلا بمقاصد الإسلام، وتعتبر ثانيا – وهذا هو المهمّ – شكلا من أشكال الإرهاب الفكريّ الّذي تمارسه يوميّا فصائل الإسلام السّياسيّ مستظلّين براية « حرّيّة التّعبير » الّتي لا يقرّون بها إلاّ لأنفسهم، وتعتبر ثالثا امتهانا للقوانين المدنيّة المعمول بها اليوم في تونس وتحريضا على النّيل منها تمهيدا لإبطالها
12 – المطالبة بإعادة العمل بالعقوبات البدنيّة المهينة (كالجلد الّذي دعا إليه راشد الغنّوشي دفاعا عن صهره، والرّجم الّذي لم ينفكّ يدعو إليه الدّعيّ العليمي على الهواء مباشرة) هو نيل من حرمة الجسد البشري، فاقد تماما للمشروعيّة الدّينيّة لأنّ هذه الأحكام هي أحكام إجرائيّة ظرفيّة اقتضتها الملابسات التّاريخيّة الحافّة بظهور الإسلام، وليست أحكاما أبديّة كما يزعم أنصار الإسلام السّياسيّ، خاصّة وأنّها أضحت اليوم من مظاهر التّوحّش الممجوجة
13- لا وجود لفطرة إسلاميّة، كما لا وجود لفطرة وثنيّة أو يهوديّة أو بوذيّة أو مسيحيّة. وغاية ما في الأمر أنّه يمكن الحديث عن فطرة إنسانيّة، ليس « الإسلام السّياسيّ » من مكوّناتها كما يزعم المنادون به على منابر الهذر والبهتان. ولو كان « الإسلام » رديف للفطرة، كما ورد ذلك في نصّ عريضة « علماء » الزّيتونة و »عالماته »، لكان كلّ البشر ولدوا – ويولدون وسيولدون – مسلمين
14 – ليست الأصالة رهن بالعقيدة الدّينيّة، خاصّة وأنّ هذه الأخيرة ليست من القواسم المشتركة بين أهل البلد الواحد، وبين البشر عامّة، وإنّما الأصالة أوّلا وآخرا هي في الانخراط في التّاريخ والالتزام بقوانين الزّمان والمكان. أمّا محاولات النّكوص إلى الوراء، بحثا عن الجنان الضّائعة والمدائن الفاضلة، فهو سراب لا طائل من ورائه.
15- وكذلك الأمر بالنّسبة للهويّة، لا يجوز حصرها بحال في قالب مّا، لأنّها نتاج مركّب لكلّ المعطيات المحلّيّة والكونيّة. ولذلك نقول إنّه لا فضل لتونسيّ وتونسيّة على تونسيّ وتونسيّة إلاّ بالمواطنة، وبالمواطنة لا غير. ولذلك أيضا يسعى من تفضل « إسلاميّته » « تونسيّته » إلى إلغاء تونس، الّتي ليست له وطنا، لإقامة « دولة الخلافة »، « وطن » المسلمين قاطبة
16 – والشّيء نفسه يقال عن « الأسرة » الّتي يريد الإسلام السّياسيّ حبسها في قالب « المقوّمات والمسلّمات والثّوابت » (الإسلاميّة جميعا)، وكأنّ هذا « الإسلام » المزعوم نظام فكريّ ومعرفيّ وثقافيّ وتربويّ مكتف بذاته. ففضلا عن أنّ مثل هذا النّظام لا وجود له نظريّا وعمليّا، فإنّ المشاهدة العينيّة لما يحدث اليوم في حقل الطّفولة يدلّ بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ « الأسرة الإسلاميّة » الّتي يسعى الإسلاميّون لتأسيسها هي استعادة مشوّهة لنظام أسري وأخلاقيّ وتربويّ باد واندثر، يقوم على التّلقين (التّرتيل، التّجويد، الاستعراض عن ظهر قلب) والتّدجين والتّطويع بقصد التّحكّم لاحقا في مصائر هؤلاء الأطفال وتحويلهم إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أوقات الحاجة
17 – أمّا « الثّوابت »، الّتي تنعت تجاوزا « بالإسلاميّة »، فهي في جوهرها تكرّس العنف في أبشع أشكاله (الرّجم والقطع والذّبح) والتّمييز الجنسيّ بين النّساء والرّجال (القوامة، النّساء ناقصات عقل ودين، لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)، والتّمييز العنصريّ والدّينيّ (نحن خير أمّة أخرجت للنّاس). وأغرب ما في هذه الدّعوى الهجينة بكلّ المعايير أنّ المنافحين عنها يؤكّدون أنّ القسوة والظّلم النّاجم عن التّمييز بين البشر هي تعبير عن إرادة الله تعالى، وليست تعبيرا عن « إرادتهم » هم. وهكذا يتحوّل الله بفضل « مناصرتهم » له و »إعلائهم لكلمته » إلى كائن جبّار دمويّ ظالم، لا همّ لها إلاّ التّرويع والتّعذيب والحرق وتقطيع الأطراف وشدخ الأجساد بالحجارة وجزّ الرّؤوس في ساحات « العدل » المزعومة.
18 – لا حقيقة تاريخيّة لما يسمّى « الخلافة »، ولا حقيقة لما يقال عن « الخلافة لرّاشدة » وغير الرّاشدة. ووقائع التّاريخ الموضوعيّة تثبت بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ الخلافات السّياسيّة، صلب مجتمع إسلام البدايات » اتّخذت شكل صراع قبليّ بالأساس، أضيفت إليه فيما بعد اعتبارات عقديّة، تمخّضت في النّهاية عن مواجهات دامية استمرّت لفترات طويلة، ولا تزال تبعاتها قائمة إلى اليوم في المصادمات بين السّنّة والشّيعة على وجه الخصوص. وليس أدلّ على ذلك من أنّ بعض المأثورات، المنسوبة إلى الرّسول، تقرّ بأنّ الخلافة امتياز قرشيّ، لا يمكن بحال أن تخرج عن هذه القبيلة، ولكنّ المنطق التّاريخيّ الضّاغط لم يحل دون أن يستأثر الأتراك بإرث نبيّ الإسلام حتّى قضى لها التّاريخ بالزّوال كما قضى قبلها بالزّوال على العبوديّة

الدكتور فرج الحوار

يتبع