مقدمة لا بد منها (3) : لماذا لم يقل ما كان يجب أن يقال ضرورة؟

كنّا انتهينا في حديث سابق لنا، في معرض استعراضنا لعيّنات من المبادئ الأساسيّة الّتي كان يتعيّن طرحها – بعضها أو كلّها – في ساحات السّجال الإيديولوجي المحتدم منذ سنوات، وأكّدنا على أنّ هذه العمل المنهجيّ لم يحدث للأسف تعريضا أو تصريحا. وقد آن الأوان لأن نتساءل عن هويّة الأطراف الّتي كان من واجبهم أن يضطلعوا بمسؤوليّة الإصداع بهذه الأساسيّات ولكنّهم لم يفعلوا شيئا بفعل حسابات سياسيّة (أو سياسويّة بالأحرى) مهادنة يزعم مصمّموها أنّها وحدها الكفيلة أن تحفظ لهم « قاعدتهم » الانتخابيّة المحدودة أصلا في استحقاقات السّنة القادمة
والمبرّر البراغماتيّ لهذه الحسابات السّياسويّة القاصرة أنّه يجدر بمن يروم الاحتفاظ له بمكان على ركح الحياة السّياسيّة في تونس اليوم أن يتجنّب المواقف « الصّادمة » (أو العلمانيّة المتطرّفة بلغة أحد الحقوقيّين الّذين ارتقت بهم « واقعيّتهم » السّياسيّة « الحصيفة » إلى سدّة الحكم في قرطاج) الّتي لا تروق أطيافا واسعة من الشّعب التّونسيّ. وتقدّر هذه الحسابات السّاذجة (والذّكيّة جدّا في نظر أصحابها) أنّ عين الحكمة السّياسيّة تكمن في عدم استفزاز المشاعر العامّة، وفي عدم التّصادم مع القوى السّياسيّة الصّاعدة ممثّلة في اليمين الدّينيّ الرّجعيّ الفاشستيّ الذّي انتهج التّطرّف فكرا ومنهجا، فهو يعيث اليوم فسادا في عقول العامّة تحت غطاء الوعظ والإرشاد الدّينيّين
ولا يملك النّاظر في مجريات الأحداث الأخيرة ومآلاتها الخطيرة نفسه من العجب إزاء الصّمت المريب على تصريحات التّطرّف الّتي ما انفكّ يدلي بها « سياسيّون » ينتظر منهم أن يكونوا في مقدّمة المدافعين عن الخيارات الدّستوريّة للجمهوريّة الثّانية أو الثّالثة، المدنيّة حتّى إشعار آخر. وهو لا شكّ سيعجب أكثر لصمت أطراف أخرى كان يتعيّن أن يبادروا قبل غيرهم إلى تثمين ما ورد في تقرير « لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة » الّتي تترأّسها الأستاذة بشرى بلحاج حميدة، والدّفاع عنه ضدّ جحافل الألسنة المأذونة والمأجورة الّتي امتهنت « الدّجل المقدّس »، فأشاعت مثلا في أوساط العامّة أنّ التّقرير المذكور ينادي بإبطال سنّة الختان لأنّها في نظر صائغيه شكل من أشكال التّعذيب
سكت إذن أصحاب القضيّة الأصليّون، المنادون بإرساء دولة الحداثة، واكتفى بعضهم بغمغمات محرجة وجمل فضفاضة مقتضبة من باب « تطيير اللّوم » لا أكثر، فلم نسمع عند احتدام وطيس المواجهة إلاّ أصوات بعض المنظّمات الحقوقيّة والأكاديميّة. أمّا الأحزاب السّياسيّة، المعنيّة مباشرة بهذا الاستحقاق الحقوقيّ، الثّوريّ بحقّ، فقد فضّلوا الانسحاب كلّيّا من حلبة الصّراع طلبا للسّلامة والعافية، وحرصا على مكانتهم المهتزّة المتراجعة، لم يشذّ عنهم إلاّ « الحزب الدّستوريّ الحرّ » ورئيسته الأستاذة عبير موسى الّتي أدركت جيّدا أنّ هدف « الإرهاب » الذّي يمارسه اليمين الدّينيّ الفاشستيّ لا يستهدف حياة الأشخاص فقط بل هو يستهدف حياة الأفكار أيضا، بل إنّه يستهدف حياة « الفكر » بصورة أساسيّة باعتباره من ألدّ أعداء مشروعه القائم على التّقليد والاجترار والخمول والتّواكل
كان التّونسيّون، من ذوي الميولات اليساريّة التّقدّميّة، يأملون أن يسمعوا أصوات من يقدّموا أنفسهم اليوم كزعماء لليسار، باعتبارهم المؤهّلون معرفيّا وسياسيّا لإدارة هذه المواجهة المصيريّة، الحاسمة في تاريخ البلاد الّتي تتربّص بها أخطار ردّة حضاريّة شاملة، تشير كلّ المؤشّرات أنّها ستلقي بالبلاد التّونسيّة في أوحال الأصوليّة الوهّابيّة الاستبداديّة المتخلّفة. ومن أولى ممّن انبنى فكرهم السّياسيّ على المادّيّة والجدليّة التّاريخيّة ليكونوا في الصّفوف الأولى لهذه المعركة التّاريخيّة؟ ومن أولى، ضمن هذه القوى التّقدّميّة، من « الجبهة الشّعبيّة »، النّاطقة رسميّا باسم اليسار التّونسيّ برمّته، والحاملة نظريّا لهمومه وطموحاته لتقوم سدّا منيعا في وجوه قوى الشّدّ إلى الوراء المستنفرة في كلّ السّاحات؟
ذلك هو ما كان متوقّعا، بل ذلك هو ما كان يجب أن يحدث منطقيّا ولم يحدث منه شيء للأسف بسبب الحسابات السّياسويّة الضّيّقة الّتي تبسّطنا في شرحها في فقرة سابقة. والحقيقة أنّ التّونسيّين، الّذين لم يزالوا يحسنون الظّنّ بيساريّة « الجبهة الشّعبيّة »، لم يفاجئوا كثيرا بصمت هذا « الهرم التّقدّمي »، المتعدّد المشارب والزّعامات، بناء على ما سبق أن اتّخذه النّاطق الرّسميّ باسمه في مناسبات سابقة، لعلّ أهمّها « فضيحة » تحوّله إلى صفاقس للمشاركة في مأتم « الشّهيد السّلفيّ الجهاديّ » – الذّي أشيع، دونما دليل، أنّه اغتيل من قبل الموساد الإسرائيليّ -، وليقدّم التّعازي لامرأة « الشّهيد » المنقّبة ولأفراد أسرته
وكنّا شاهدنا هذا النّاطق الرّسمي على شاشات التّلفزة، يبرّر مشاركته في هذه « المأساة الملهاة » المبهمة والمريبة، بقوله إنّه يفضّل المناضلين من طراز هذا « الجهاديّ الشّهيد »، رغم اختلافه معه، على جيوش المثقّفين الكسالى المتحلّقين في المقاهي والحانات، يقطعون الحياة ثرثرة فيما يموت أمثال هذا « الشّهيد » الذّي أثار الرّعب في « الكيان الصّهيونيّ »، ذودا عن قضيّة العرب الأولى. كان خطاب الزّعيم اليساريّ التّاريخيّ خطابا عاطفيّا تجييشيّا لا يختلف جوهريّا عن الخطاب الأصولي الدّينيّ في سطحيّته وعموميّته ومثاليّته حتّى ليتساءل المرء عن السّبب في امتناع هذا الزّعيم الماركسيّ عن تجنيد « المجاهدين »، أسوة بالمجاهدين، ليحاربوا الكيان الصّهيونيّ المغتصب، وعمّا منعه هو شخصيّا من الانخراط ضمن المدافعين عن « قضيّة العرب الأولى » مكتفيا بمقاومة « الدّيكتاتوريّة » في القطر التّونسيّ؟
هذا الخطاب اليسراويّ الصّبيانيّ إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على الخواء الفكريّ والإيديولوجيّ لهذا اليسار ويفسّر انهياره السّريع أمام المدّ الدّينيّ الأصوليّ السّريع، ومحاولاته المتكرّرة لمهادنته، بل والتّقرّب منه أحيانا. ولا يسع المرء إزاء هذا المأزق الحضاريّ – الذّي قد يُحسم قريبا لصالح قوى الرّدّة في سعيها المحموم للقضاء المبرم على إنجازات الدّولة الوطنيّة – إلاّ أن يقرّ أنّ الزّعيم الرّاحل الحبيب بورقيبة كان – على علاّت نظامه الكثيرة – أكثر « يساريّة » و »تقدّميّة » و »حصافة » و »نضاليّة » من القوى « اليساريّة » الّتي ساهمت اليوم، عن قصد أو عن غير قصد منها لا يهمّ، في التّفريط في الجوانب الإيجابيّة من تراثه
وها نحن نشهد اليوم كيف أصبحت « الثّورة »، الّتي يفترض منطقيّا أن تكون مناسبة لتركيز منظومة حقوقيّة متطوّرة، وبسبب من تهاون اليسار المؤسّساتي وتواطئه المفضوح مع أعداء هذا التوجّه التّحريريّ، مطيّة القوى الرّجعيّة للسّير بتونس وشعبها عكس اتّجاه التّاريخ ومنطقه. هذه الجريرة السّياسيّة الكبرى، الّتي لم تقترفها دولة الاستقلال البورقيبيّة، تتحمّل وزرها كلّ الأطراف السّياسيّة الّتي أفسحت المجال للمدّ الدّينيّ الرّجعيّ ليهدم المشروع الحداثيّ التّونسيّ ويقوّضه من أساسه
واليوم، وإزاء الصّمت المطبق الّذي التزمت به هذه الأطراف بالذّات فيما يخصّ ملفّ الإصلاحات الحقوقيّة الجذريّة الّتي اقترحتها « لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة »، برئاسة الأستاذة بشرى بلحاج حميدة، لا يسع الملاحظ إلاّ أن يقرّ على مضض أنّ قوى « اليسار » قد تكون اختارت صفّها ونهجها المتمثّلين في مهادنة القوى الدّينيّة الرّجعيّة وإفساح المجال لها لتجنيد ما شاءت من « المجاهدين » و »المناضلين » و »المساندين » و »المتعاطفين » بدعوى أنّ مواجهة مقولات قوى الرّدّة الظّلاميّة بما ينقضها ويدحضها من شأنه أن يزيد « الشّعب » نفورا من اليسار ومشروعه المجتمعي
ولسائل أن يسأل: هل سيزيد هذا الموقف المتخاذل من حظوظ اليسار الانتخابيّة في الأوساط الشّعبيّة (ويدفع مثلا بأحد زعمائه إلى سدّة الحكم في قرطاج) الّتي اكتسحتها الدّعاية الإسلامويّة المتهافتة؟ والجواب أن كلاّ وألف كلاّ، لن يرفع هذا « التّراجع الإستراتيجيّ » من الرّصيد الانتخابيّ لقوى اليسار في تشكيلتها الحاليّة، ولن يحمل « معتدلي » الإسلاميّين، المنضوين تحت راية ما يسمّى « النّهضة »، إلى مراجعة موقفهم من « العلمانيّة » (المشبوهة قلبا وقالبا في أنظار الإسلاميّين) وأنصارها المفترضين. بل لعلّ ما سيحدث هو عكس ذلك تماما لأنّ قوى اليمين الدّينيّ، المنتشية بانتصاراتها الانتخابيّة المتتالية وإنجازاتها التّاريخيّة المدوّيّة، لن ترى في هذه المهادنة إلاّ مظهرا إضافيّا من مظاهر الضّعف والانتكاس الّتي أصابت المشروع الحداثيّ التّونسيّ في مقتل، فلن يلبث هذا الأخير أن ينهار بالكامل كما تكهّنت بذلك كريمة راشد الخريجي بنفس الاعتداد واليقينيّة الّتي اقتبستها من خطاب سيّد الزّمان والمكان، والدها الموقّر

الدكتور فرج الحوار