على وقع صلاة الإستسقاء … رَعْي تربة تنبت التطرف

نشرت وزارة الشؤون الدينية بلاغا دعا فيه وزيرها إلى إقامة صلاة الاستسقاء في جميع المساجد وهو ما أثار جدلا حول هذه المسألة حيث اتجه البعض إلى اعتبار الدعوة إلى هذه الصلاة في غير محلها لأنها تتناقض مع ما توصّل إليه العلم في حين ذهب البعض الآخر إلى تكفير المعترضين الناقدين واختلط الحابل بالنابل، وضعا للمسائل في مواضعها أقول وعلى الله الاتكال

1) رفعا لأي التباس لمّا يُستعمل لفظ الصلاة فيما يتعلق بالاستسقاء فإن المقصود هو الدعاء أي المعنى اللغوي وليس المعنى الاصطلاحي للصلاة التي هي عبادة واجبة ذات أركان وشروط وواجبات مخصوصة يثاب المرء عند القيام بها ويعاقب عند تركها

2) صلاة الاستسقاء تندرج ضمن صلوات التطوع التي من بينها صلاة الاستخارة وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وصلاة التوبة وصلاة الكسوف وقيام الليل وصلاة التراويح وغيرها وهي كلها غير واجبة ويختلف حكمها بين الندب والإباحة

3) يختلف حكم صلاة الاستسقاء باختلاف المذهب فهو لدى المالكية سنة(1) أما ابن عابدين من شيوخ الأحناف فيقول: « فالحاصل أن الأحاديث لمّا اختلفت في الصلاة بالجماعة وعدمها على وجه لا يصحّ به إثبات السنيّة، لم يقل أبو حنيفة بسنيّتها ولا يلزم منه قوله بأنها بدعة كما نقله عنه بعض المتعصبين، بل هو قائل بالجواز »(2) وهو ما يعني أن الحكم فيها يتراوح بين السنيّة التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها والجواز أي المباح الذي ترك أمر فعله لصاحبه إن شاء فعل وإن شاء ترك دون انتظار ثواب أو عقاب، فالاختلاف في الحكم يعطي فسحة للأخذ بالأوفق والأكثر ملاءمة وحفظا للدين من أن يكون محلا للهزء والسخرية وهو ما تفطن له الأسلاف لمّا منعوا الذمي من حضور صلاة الاستسقاء إلا بعد يوم من أدائها جاء في الدردير: « (ولا يمنع ذمي) أي يكره منعه من الخروج (وانفرد) بمكان عن المسلمين ندبا (لا بيوم) أي وقت فيكره خشية أن يسبق القدر بالسقي في يومه فيفتن بذلك ضعفاء المسلمين »(3) أما لدينا فإن وزارة الشؤون الدينية لا ترى مانعا في الدعوة إلى هذا النوع من الصلاة رغم أن تكوّن السحاب والاستمطار أصبح معلوما ومتاحا وهي بذلك تضع الدين في موضع المساءلة والسخرية من أصحاب العقول الراجحة وجوابها إن لم تمطر بعد الصلاة فذلك عقاب من الله لانتشار المعاصي وهو تفكير خرافي مضرّ بمؤسّسات الدولة التي كان من المفروض أن تنأى بنفسها عن مثل هذه المزالق

4) لكل واحدة من هذه الصلوات أسبابها فصلاة الجنازة لا تؤدى إلا بوجود الميت وصلاة الخسوف عند حدوثه فإن انتفت العلة انتفى الفعل فلو عدنا إلى مسألة الاستسقاء لوجدنا أن المعارف الحديثة مكنت الإنسان من الاستمطار الصناعي وتكوين السحب وغير ذلك ممّا لم يكن موجودا أيام البعثة الأمر الذي يجعل من الركون إلى صلاة الاستسقاء في غير محله لأن الأخذ بالأسباب التي توجد السحب والأمطار أولى هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الإصرار على هذا النوع من الصلاة يكشف ما عليه الداعون إليها من يبس وتخشب وتطرّف لأن الأصل في الأشياء أن نبحث عن المصلحة ونعمل على تحقيقها ولو سكت عنها الشرع يقول نجم الدين الطوفي: « أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل فإذا رأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على رعايتها »(4) فمن واجب الدولة في مقاومتها للجدب أن تعمل على استغلال المعارف العلمية لا أن تتجه إلى الدعاء كما دعا إلى ذلك وزير الشؤون الدينية

5) في إثبات النسب اعتمد الفقهاء على القائف وهو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود(5) وعلى القرعة التي ثبت فيها آيتان من كتاب الله طريقا شرعيا(6) بجانب مجموعة من الأحاديث الموَزّعة بين الصحاح بل إن البخاري: « عقد بابا خاصا بعنوان باب القرعة في المشكلات مبتدئا بالاستشهاد بالآيتين القرآنيتين اللتين أسلفناهما ثم راويا لطائفة من الأحاديث النبوية الصحيحة في شأن القرعة »(7) قال ابن القيم: « إذا تعذرت القافة، أو أشكل الأمر عليها كان المصير إلي القرعة أولي من ضياع نسب الولد وتركه هملاً لا نسب له، وهو ينظر إلي ناكح أمه وواطئها، فالقرعة هاهنا أقرب الطرق إلي إثبات النسب، فإنها طريق شرعي، وقد سدت الطرق سواها، وإن كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة وتعيين الرقيق من الحر، وتعيين الزوجة من الأجنبية فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب من غيره، ومعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال، والشارع إلي ذلك أعظم تشوّفاً، فالقرعة شُرّعت لإخراج المستحق تارة ولتعيينه تارة، وها هنا أحد المتداعيين هو أبوه حقيقة، فعملت القرعة في تعيينه كما عملت في تعيين الزوجة عند اشتباهها في أجنبية، فالقرعة تخرج المستحق شرعاً كما تخرجه قدراً، وقد تقدم في تقرير صحتها واعتبارها ما فيه شفاء فلا استبعاد في الإلحاق بها عند تعينها طريقا، بل خلاف ذلك هو المستبعد »😎 هذا ما استقر عليه الفقهاء قديما ولا تثريب عليهم في ذلك لأن الممكن وقتها لم يكن يتجاوز القائف أو القرعة أما اليوم فبواسطة علم الوراثة يمكن على التدقيق إثبات نسب هذا من ذاك نفس الشيء يقال عن صلاة الاستسقاء فكما استغنينا عن القائف والقرعة بالجينات كذلك نستغني عن صلاة الاستسقاء بالأخذ بالأساليب العلمية للاستمطار والأمثلة على ترك النصوص وما انتشر لدى الفقهاء لفائدة الفتوحات العلمية لا تعدّ ولا تحصى من بينها التداوي بالعسل وأبوال الإبل وألبانها وغير هذا كثير

تعيش بلادنا منذ سنة 2011 انغلاقا وتشدّدا دينيا تعمل الدولة للأسف على نشره وفتح الأبواب أمامه متوهمة بذلك أنها تستجيب للفصل الأول من الدستور وهي في حقيقة الأمر ترعى التربة التي تنبت التطرف والإرهاب من خلال مساجد وجوامع يعلم الله وحده الجرائم التي ارتكبت فيها من تسفير إلى بؤر التوتر ودمغجة لأبنائنا وكذا الحال في وسائل الاعلام والمستفاد مما ذكر أنه ما لم نعمل على النأي بالدين من ساحة الفعل السياسي سنبقى كجمل الصفصاف ندور وندور ولكننا لا نتقدم خطوة إلى الأمام

بقلم أنس الشابي

الهوامش

1) « الثمر الداني، شرح رسالة أبي زيد القيرواني » لصالح عبد السميع الآبي، طبعة التيجاني المحمدي ص259.
2) « رد المحتار على الدر المختار » لابن عابدين، ج1 ص567.
3) « حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، طبعة عيسى البابي الحلبي ج1 ص406.
4) « المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي » مصطفى زيد، دار الفكر العربي، مصر 1954، ط1، ص48 من رسالة الطوفي في آخر الكتاب.
5) التعريفات للجرجاني طبعة الدار التونسية للنشر ص91.
6) الآية الأولى رقم 44 من سورة آل عمران قال تعالى « إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ » والثانية رقم 141 من سورة الصافات قال تعالى: « فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ » ساهم أي قارع والمدحضين أي المغلوبين والمقصود النبي يونس لما قارع في من سيرمى به في البحر حتى تخف حمولة السفينة ليلتقمه الحوت.
7) « موسوعة الفقه الإسلامي » المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وزارة الأوقاف مصر، ج21 ص223.
 « الطرق الحكمية في السياسة الشرعية » لابن القيم الجوزية، تحقيق نايف بن أحمد الحمد، دار عالم الفوائد، المجلد الأول ص617 و618