تفاعل «الأصدقاء» مع قرار رئيس الجمهورية حل المجلس الأعلى للقضاء
نحن أشدّ قلقا.. من قلقكم
تهاطلت ردود الأفعال بعد الخطوة الجديدة التي أتاها رئيس الجمهورية قيس سعيد بإعلانه الشفوي عن حلّ المجلس الأعلى للقضاء خلال الليلة الفاصلة بين يومي السبت والأحد الماضيين وإقدامه مطلع الأسبوع الجاري على غلق مقرّ المجلس وتبشيرنا بأن مرسوما سيصدر خلال اجتماع مجلس الوزراء غدا الخميس حول هذه المؤسسة في إطار ترجمة مقولته الشهيرة بـ : تطهير القضاء
وردود الأفعال الوطنية والأجنبية المتسارعة والمكثّفة أمر عادي في المشهد الدولي الراهن، وكذلك مضامينها والمواقف التي تُضمرها وتقدّمها لنا، صريحة أو «معلّبة» أو حتى «ملغّمة» إن جاز القول خاصة وأن الرئيس ينهل من القاموس الحربي بدوره ويتحدّث عن المنصات والصواريخ الجاهزة لاستهداف خصومه، وعليه كانت وجهات النظر مختلفة بل ومتناقضة ولا يمكن بالتالي السكوت عنها
ولا مناص بداية من التذكير بأن قانون اللعبة في العلاقات الدولية يتيح للجميع في هذه القرية المعولمة أن يتفاعل ويتضامن ويستنكر ويؤيد ويدين ويعبّر فوق كل ذلك عن القلق إن اقتضت الضرورة ذلك، وهنا، ومثلما انتشينا وتفاخرنا – أو تفاخر بعضنا للتاريخ – بوقوف العالم وتصفيقه لما قمنا به بين سنتي 2010 و2011 وبعده، على من قبل بذلك حينها وعلى مرّ الأزمنة، أن يتحلّى بالشجاعة وبرحابة الصدر في التعاطي مع ردود الأفعال اليوم ويقبلها ويتفاعل معها بما تقتضيه الضرورة والمصلحة الوطنية في كنف احترام السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطني وهيبة الدولة
ويزداد الأمر وهجا وتشويقا صراحة حين نتوقّف لبرهة من الزمن عند حقيقة أن الأمر يتعلّق ببلادنا، بتونس.. أجل هي تونس، هذا «الكوكب الصغير» على ضفاف المتوسط، كوكب حاول على مرّ التاريخ ألاّ يدور في فلك الآخرين وفي مجرّاتهم، وفي مقابل ذلك حاول الجميع جرّه ليدور في فلكه رغم أننا لا نملك من الثروات على هذا «الكوكب الصغير» سوى ثروة العقل الذي قد يتكلس أحيانا وقد يتوقّف أحيانا أخرى عن الاجتهاد والتفكير الإيجابي، لكنه يستفيق وينهض في اللّحظات الحاسمة، لذلك يتدافع حوله الجميع
قد يقول البعض وما دخل «الأصدقاء» في شأن داخلي يتمثّل في حل مؤسسة دستورية تونسية مائة بالمائة؟ الجواب بسيط، وهو أن هذه المؤسسة عنوان من عناوين الديمقراطية ومقولة من مقولات دولة القانون والمؤسسات التي تسود في الدول «الصديقة» التي نسير على درب تجربتها الإنسانية وبالتالي فإن التفاعل اليوم والقلق وحتى الغضب أمر منطقي ديمقراطيا تماما مثلما نقلق نحن من تعامل هؤلاء «الأصدقاء» مع المهاجرين أو مع قضيتنا المركزية، قضية الحق الفلسطيني أو مع الإرهاب والإرهابيين، ألم تكن الديمقراطيات الغربية حاضنة للجماعات الجهادية وملاذا آمنا لجماعات الإسلام السياسي؟
وعلى هذا الأساس لا نرى حرجا في ما رشح من مشاعر «الأصدقاء» تجاهنا وفي مقدمة هؤلاء الأمم المتحدة التي أعربت عن قلقها لـ «عدم احترام السلطات القضائية بتونس»، وأعلمنا نائب المتحدث باسم الأمين العام للمنظمة أنهم يراقبون ما سيحدث على الأرض في تونس و: بالطبع، هناك شيء واحد سنكون واضحين للغاية بشأنه وهو الحاجة إلى معاملة السلطات القضائية والنظام القضائي في البلاد معاملة عادلة ومحترمة، ونحن نريد من كل القوى السياسية هناك أن تلتزم بذلك
كلام معقول، لم يخرج عن مواقف الأمم المتحدة المعهودة التي يقلقها كثيرا القلق من الأوضاع الداخلية للدول الأعضاء
نفس الأمر بالنسبة إلى سفراء دول مجموعة السبع المعتمدين بتونس والاتحاد الاوروبي الذين عبروا أمس جماعيا عن قلق بلدانهم البالغ إزاء ما أعلن عنه رئيس الجمهورية قيس سعيد من نية لحل المجلس الأعلى للقضاء من جانب واحد ولا نعلم إن كان المقصود بعبارة «من جانب واحد» هو عدم أخذ رأيهم كما اعتادوا في بعض الدول
لقد ساور القلق سفراء كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة الأمريكية والاتّحاد الأوروبي المعتمدين بتونس وذكروا في بيان مشترك صادر عنهم بأن مهمة مجلس القضاء تتمثّل في ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاليته وبأن قيام قضاء مستقلّ ذي شفافية وفاعلية والفصل بين السلطات ضروريّان لحسن سير منظومة ديمقراطية تخدم مواطنيها على أساس من سيادة القانون وضمان الحقوق والحرّيات الأساسية، وهذه بديهيات من باب ذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
هذا وقد استبقت الإدارة الأمريكية الجميع في الإعراب عن القلق منذ يوم الاثنين وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكي أنّ : القضاء المستقلّ عنصر حيوي لديمقراطية فعّالة وشفّافة ومن الضروري أن تحافظ الحكومة التونسية على التزاماتها باحترام استقلال القضاء وفقاً للدستور
ليس ذلك فحسب، جددت الولايات المتحدة «دعوتها إلى تسريع عملية الإصلاح السياسي في تونس والتي من شأنها ضمان استمرار احترام حقوق الإنسان»، ونأمل ألا يكون هذا الاحترام على شاكلة احترام الإدارة الأمريكية لحقوق الإنسان والشعوب في أمريكا والعالم
إن قلق الأصدقاء يقلقنا بدوره لأنه يذكّرنا بحقيقة أن الدول الرخوة التي تهتز فيها الجبهات الداخلية وتتصدع فيها الوحدة الوطنية ويختار حكامها الانفراد بالرأي ويجنحون إلى الاستبداد ولو كان دستوريا فقط وهو الأخطر في تقديرنا لذلك لا مناص من البحث عن العلاج المناسب لهذا القلق حتى لا يتفاقم ويعود بالوبال على جسد الوطن، حينها لن تنفع المسكّنات ولا أنصاف الحلول ولا الشماريخ الموجودة على المنصات
ليس أمامنا سوى الجنوح إلى العقل والبحث عن الحل التونسي التونسي للخروج مما نحن فيه ولا معنى لحل أحادي أو حل جزئي فالأزمة مركّبة ولا يستطيع أحد حلحلتها بمجرد الاهتمام بواحد فقط من جوانبها وتمظهراتها، وفي المحصّلة لا يكفي معالجة ملف مجلس القضاء مثلا منفردا لعلاج مرفق العدالة برمّته في بلادنا ودون أن يقع تنزيل ذلك في سياق حلّ سياسي واقتصادي واجتماعي وقيمي وهذا ليس عسيرا على تونس والتونسيين
بقلم: مراد علالة