لقد أقدم الرئيس الأول الراحل للجمهوريّة التونسيّة الحبيب بورقيبة على قرار جريئ ضمن مجلّة الأحوال الشخصيّة الصادرة في 1956 يتعلّق بعدد الزوجات و قد كانت الظروف السياسيّة و الاجتماعيّة يومئذ سانحة لتمرير مثل هذا القرار المخالف للمشرّعين في الإسلام عبر المكان و عبر الزمان. و منذ عهد قريب أخذ المجتمع المدني يلوّح بمراجعة قانون الميراث بما يضمن المساواة في الميراث بين الذكر و الأنثى و ذلك بناء على ما يشهده المجتمع من تطوّر تمكّنت المرأة فيه من التعلّم و التشغيل و المشاركة بالنصف، و أكثر من النصف أحيانا، في القوامة المادّية و الأدبيّة على العائلة
و في مناخ سياسيّ تعدّدي، و في حضور إسلامويّ نهضويّ واسع، يفتح الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، بشجاعة لا تقلّ عن شجاعه معلّمه، الملفّ الشائك الثاني، ملفّ الإرث. و لمّا لم يكن يتمتّع بالظروف الميسّرة المتاحة لسابقه كان من الذكاء أن يحتمي وراء لجنة مكلّفة بالنظر و تقديم الحلول. و قضيّة الإرث قضيّة ذات أوجه ثلاثة متلازمة : ثقافيّ و سياسيّ و دينيّ. أمّا الوجه الثقافي، و لعلّه الأهمّ، فهو نتاج التربية و التعليم و المنهج الذي تربّى عليه التونسيون وهو قدرتهم على حسن الفهم و التّأويل و قدرتهم على إدراك البعد المقاصدي للنصّ الديني الذي يقوم على مبادئ أخلاقيّة ربّانيّة عقليّة ثابتة لا تتزعزع على مرّ العصور و تتلخّص في إتيان الخير على اختلاف وجوهه من تراحم و تحابب و مساواة و غيرها و هو النصّ الذي لا تفهم حدوده على أنّها قيود أبديّة بل على أنّها القيود المناسبة لعصرها المتغيّرة بتغيّر العصر و تجدّد النوازل الموكولة لآجتهاد الفقهاء و إلاّ أوجبنا اليوم على الناس ملك اليمين و قطع اليد و جلد المجلود كما ينصّ عليه القرآن الكريم. فإذا غابت هذه الكفاءة في الفهم و التّأويل أوكلنا مصيرنا في الحاضر و المستقبل إلى السّلف الصالح نحتكم بأحكامه و نعيش سكيزوفرينيا الحداثة تدفعنا إلى الأمام و السلفيّة تجذبنا إلى الوراء إلى ما شاء ربّك
و عاملت النهضة، على المستوى السياسي، رئيس الدولة بالحيلة نفسها فاحتمت بعلماء جامعة الزيتونة الذين تظاهروا بالخطاب العلميّ و أخذوا ينفخون في الرّأي العام و يحضّرونه لموقف سلفيّ رافض ستجني النهضة ثماره عندما يحين قطافه
و الأسئلة المطروحة هنا : ما الداعي إلى ركوب الدين الآن في المعركة السياسيّة و حول نقطة حسّاسة فارقة؟ ما مصداقية علماء الزيتونة و ما علاقة التكوين الجامعي بجامعة الزيتونة بمنهجيّة البحث العلمي حتّى إذا نطق شيوخها اعتبرهم الناس مرجعا جديرا بالاحترام؟ و ما علاقة الدين السياسي أي النهضة بالمواقف السلفيّة وهو الذي ما ينفكّ يتبرّأ من العباءة الدينيّة و يلوّح بالمدنيّة؟ ألا يتبيّن لنا من خلال قضيّة الإرث المطروحة إحياء الانقسام في المجتمع المدني التونسي إلى قسمين : حداثي و سلفيّ في مواجهة سياسيّة دينيّة لا تقدّر موازينها و عواقبها و أنّ النطق بالحكم في هذه المسألة لا يمكن أن يصدر من لجنة و لا حتّى من استفتاء شعبي ما لم تسبقه إنارة للعقول و للقلوب بما يحملها على الاقتناع و الاطمئنان وهو أمر مطلوب بعيد المنال، اليوم، في جوّ متكهرب سياسيّا
الدكتور الهادي جطلاوي