اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ الحلقة (13) : فلسفة العدم والخراب والموت

الإكثار من الدّين يقتل الدّين. والإفراط في الدّعاية الدّينيّة، كالإفراط في الدّعاية السّياسيّة، لا يوقظ تعاطف المتلقّي – أي الجمهور -، بل الأحرى عداءه. الجمهور لا يتعاطف إلاّ مع من يوجد في موقف الضّحيّة، لا مع من هو في موقع الجلاّد: مثل حكّام أقصى اليمين الإسلامي
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، ص:20

– 304 –

نشرت صفحات التّواصل الاجتماعيّة في أحد الأيّام صورتين مثيرتين، تمثّل الأولى مجموعة من الطّلاّب الأمريكيّين يؤدّون زيارة لوكالة النّازا بقصد الاطّلاع عن كثب على آخر الاكتشافات العلميّة في مجال غزو الفضاء. أمّا الصّورة الثّانية فتمثّل مجموعة من الطّلاّب الكويتيّين وهم يؤدّون زيارة إلى أحد المقابر، تحت إشراف أستاذ-داعية من زمرة الإسلام السّياسيّ، ليكتشفوا عن كثب مساحة القبر وحدوده وعمقه، ويتعلّموا آخر المستجدّات في علوم غسل الميّت بما لا يتجاوز حدود الطّهارة الشّرعيّة، وتكفينه وفقا للقواعد المنصوص عليها في المصنّفات القانونيّة السنّجماعيّة (نسبة إلى أهل السّنّة والجماعة)، وتلحيده بالكيفيّة الشّرعيّة السّليمة الّتي تهوّن عليه لقاء الملكين، وحثو التّراب عليه بكمّيات شرعيّة لا تحول دونه ودون التقاط ما يتداوله الأحياء في شأنه بعد قبره ليكون له نعم السّلوى في مثواه الرّهيب ذاك، على ما أكّده ثاقب البصر والبصيرة الإمام القدوة ابن رجب الحنبليّ في رائعة الدّهر الموسومة بـ « أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النّشور »، تبسّط غبطته فيها في ذكر أحوال المقبور بدقّة من يرى ويسمع ويدوّن، فأتى فيها بكلّ مبتكر طريف
تبادر إلى ذهني، وأنا أتفحّص هذه اللّوحة الإيمانيّة الرّائعة، المثل العربيّ الّذي يقول إنّ الطّيور لا تقع إلاّ على أمثالها، والمثل الآخر الّذي يؤكّد أنّ الإناء لا يرشح إلاّ بما فيه، والثّالث الذّي يبارك لقاء شنّ بطيقة. فلا غرابة إذن أن تحلّق الطّيور الأمريكيّة ثمّ تحطّ حيث الحياة في حركة دائمة وتحوّل مستمرّ. ولا عجب كذلك أن حلّقت الطّيور الكويتيّة – والعربإسلاميّة بصفة عامّة – لتحطّ في عرين الموت، أمام قبر فاغر فاه، فاتح ذراعيه لاحتوائها في ظلماته الدّامسة، والإلقاء بها لقمة سائغة في براثن منكر ونكير، ومن بعدهما للدّيدان والهوام. ولا غرابة إذن أن يرشح الإناء الأمريكيّ الفاخر حيويّة دافقة وسعيا دؤوبا في أثر المجهول بحثا عن المجهول الّذي تغنّى به بودلير في أزهار شرّه الرّائعة. ولا عجب أن رشح الإناء العربإسلاميّ المتصدّع صديدا وعفنا أخذا بتلابيب الكون وتسلّلا إلى روحه بالسمّ الزّعاف فاختنق
ذلك أن للطّائر العربإسلاميّ خصلة لا يشاركه فيها أحد من طيور المعمورة، فضّله إلهه بها على غيره تثبيتا له على الحقّ الّذي اختاره لنفسه نهجا بفطرته السّليمة، فلا يشغله شاغل عن معاده مهما تألّق إغراء، ولا يردّه عن نداء الآخرة حداء أو غناء، يقطع الحياة متدثّرا جننه (أي كفنه) الأبيض، لا يشغله عن خالقه سبحانه عمل أو حبّ أو علم أو اختراع أو غيرها من التّرهّات والضّلالات الدّنيويّة الّتي أعمت بصائر المشركين الصّليبيّين المناكيد، ومدّت لهم في حبل غيّهم، جاثيا على شفا رمسه يتأمّل فيه باكيا مضجعه الأخير، مستغفرا ربّه عمّا اقترفت يداه بعد وما قد تقترفانه لاحقا من صغائر وكبائر، ضارعا له سبحانه أن لا يخسّ به في الميزان فيسخّر له من حور العين مائة بدل مائتين، ومن أبكار الجنّة ألفا بدل ألفين، يفتضّهنّ بذكر لا يحفى وشهوة لا تنضب، ومن أنهار الخمور عشرة بدل ثلاثة، يوالي على ضفافها الوارفة الصّبوح والغبوق، في سعادة دائمة وهناء وحبور لا ينغّصها عليه منغّص
وخلاصة القول أنّ الطّائر الأمريكيّ غير الطّائر العربإسلاميّ ولو أشبه أحدهما الآخر حتّى لا يكاد النّاظر يميّز بينهما. والفارق بين الاثنين أنّ سليل الصّقيع والثّلج يحلّق كالنّسر الّذي نوّه به أبو القاسم الشّابّي في أغانيه للحياة. أمّا سليل الرّمال في الفيافي فلا يكاد ينتشر له جناح، يسفّ كالخفّاش إذا همّ بالسّماء، فلا يرتفع قدر المترين ويهوي إلى التّراب لائذا بالجحور في شقوق الأرض الّتي ضرّجها الجفاف والعطش. وكيف يطير من تراجع فيه جناحاه من فرط السّكون حتّى باتا في شكل قائمتي الدّيناصور الأماميّتين، لا تغنيان عنه شيئا إذا همّ بالفريسة نهشا، وتعوقانه عن الحركة كجناحي القطرس، الّذي أشاد به بودلير، تعوقانه عن الحركة إذا أمسك به البحّارة وحالوا دونه ومطلق السّماء؟
والحقيقة الّتي لا مراء فيها أنّ الطّيور الأمريكيّة هي من طيور الأرض الخبيثة بلا ريب، من تلك الّتي تبسّطت في وصفها موسوعات الحيوان المترامية الأطراف. أمّا الطّيور العربإسلاميّة فهي، كما أسلفنا، لا أصل لها في فصائل الطّيور الدّنيويّة لأنّها من جنس الطّير الأبابيل والعنقاء والثّعبان الأقرع، الّذي يروّع الأموات في أجداثهم من يوم حلولهم فيها إلى يوم ينفخ في الصّور، ومن جنس دابّة الأرض الّتي ستكون في آخر الزّمان في ركب المسيح الدّجّال، تمهّد له الأرض ليزرع فيها بذور شرّه الوبيل. فمن الطّبيعيّ إذن، والحال على ما ذكرنا، أن تسلك الطّيور الأمريكيّة سبيل السّماء في أثر مركبات الفضاء، وتتوارى الطّيور العربإسلاميّة في أغوار الأرض تلبية لنداء البيهقيّ وابن رجب الحنبليّ والسّيوطيّ والقرطبي وسيّد بن حسين العفّانيّ الّذين شغلوا الأحياء-الأموات في المفاوز فأطاروا منهم ألبابهم فهاموا على وجوههم بين المقابر يرتّلون ما تيسّر من « إثبات عذاب القبر »، و »أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النّشور »، و »التّذكرة في أخبار الموتى وأمور الآخرة »، و »شرح الصّدور بشرح حال الموتى والقبور »، و »سكب العبرات للموت والقبر والسّكرات »، وغيرها من الرّوائع الّتي جادت بها قرائح الأموات-الأحياء من « علماء » السّلف الصّالح في غابر الأزمان وفي ما تكرّر من هذا الماضي المجيد، ويتكرّر اليوم، في مختلف الأصقاع الّتي استوطنها نسل « الزّومبي » هذا
فهل ظلّ بعد ذلك من شكّ في أنّ الحياة الفانية تولّد الأولى، وأنّ الموت الثّاوي في خلايا الأحياء-الأموات لا ينتج إلاّ خلودا؟ ذلك لأنّ فلسفة الاستقالة الإسلامسياسيّة المتدسترة الّتي تحضّ على الانصراف عن الحياة، والتّقليل من شأنها، والزّهد فيها، بل وذمّها ورميها بكلّ قبيح وشنيع، لا يمكن أن تنتعش وتزدهر إلاّ في الجبّانة حيث تتعالى أصوات الأموات من جوف الأجداث صارخين منتحبين، يتضرّعون إلى منكر ونكير أن يرحماهما ويرفعا عنهم هراوتيهما لحظة من الزّمان، أو أن ينتشلاهما لبعض الوقت من الأتّون الّذي ألقيا بهم فيه منذ وسّدوا التّراب في الحفر السّوداء
المنطق الصّومي الإسلامسياسيّ الصّارم، الّذي أخضع نظام الحياة في دنيا العرب والمسلمين لداعي الإمساك النّهائيّ عن العقل (لأنّ من يجازف بالتّفكير يقع في حبائل الكفر)، حوّل الموت البطيء إلى عافية، وجعل من فطام الأحياء عن الحياة أسلوبا في الحياة. إنّه الإعجاز العلميّ المتواري في ثنايا الأدبيّات الإسلامويّة ومنعطفاتها يشدّ وثاق العرب والمسلمين إلى معادهم، فلهم فيه الكفاف (بل ما فوق الكفاف)، فيقطعون الحياة أمواتا تتحلّب أفواههم شهوة إلى البعث والخلود في جوف الأرض، وفي ضنك مضاجعهم المعتّمة، بصحبة الهوام والحشرات
ماذا يمكن أن يقول زومبيّ-داعية، متنكّر في بزّة « العلماء » أو « الأساتذة »، لطلاّبه عن الحياة وقد وضع نصب عينيه قبرا؟ شركاؤنا في هذا العالم الرّحب يقولون: « ابنوا لنا مسرحا (أو نازا)، نعطكم شعبا عظيما ». ونحن، وقد قبعنا منهم على مرمى جدث، نقول بدورنا: « ابنوا لنا قبرا (أو قليبا، أو حفرة، لا نريد سواها)، نعطكم زومبيّا مسلما منقطعا لعبادة الله، لا يشغله عنها شيئا ». تلك العزائم لا تأتي إلاّ على أقدار أهل العزم، وقد قصرنا عزمنا على القبر، لن نرفع عنه أبصارنا ما حيينا حتّى نثوي فيه. فمن يقبل أن يصوم عن العقل فترة، لا يستنكف أبدا أن ينسحب من الحياة طائعا مختارا، فما بالكم لو فطم عن العقل وهو رضيع يحبو، بل جنين في بطن أنثى أرضختها عصا التأديب الشّرعيّ في وكر الزّوجيّة فملأت ضرعها خنوعا وذلاّ، سقتهما ثمار رحمها فوضعت، لمّا ضربها المخاض، قبرا. بل مقبرة بأسرها، هي مخبرنا الوحيد وأفقنا الأبعد.
رحم اللّه أبا القاسم الشّابّي، لقد كان بعيد النّظر، ثاقب البصيرة يوم أعلن لمعاصريه من الزّومبيّات أنّ العين الكليلة لا تتطلّع أبدا إلى الشّمس، وأنّ من نبضه عزرائيل يعش دهره زاحفا بين الأجداث، ينتظر يدا رحيمة توسّده التّراب، وتوصد عليه أبواب حفرته ليقرّ في الظّلام، ويحلم ما شاء له الحلم أنّ داعي البعث يطرق عليه لحده لينبّهه من غفوته فينطلق إلى الصّراط خفيفا، ويرقى في الميزان سريعا، ويغادره إلى القصر المنيف الّذي أعدّ له في الجنان فيستقبله هناك أهله وخدمه وحشمه ومغنّيه وشعراؤه وندماؤه وقد انبطحوا أمامه أرضا شكرا للّه على سلامته
هذا الزّومبيّ الإسلامسياسيّ العجيب (الّذي يصرّ على البقاء في عالم الأحياء، ولكنّه يرفض رفضا قاطعا أن يشاركهم سعيهم المتواصل نحو قمم الحيرة والدّهشة والسّؤال والنّور) ليس من طينة الإنسان ليشارك البشر جهدهم، وليس هو مسخا ليهجر عالمهم من تلقاء نفسه، أو يغرّب منه برغبة من يخشون على حياتهم من وجوده بينهم. إنّه عشق الفناء تجسّد آدميّا إسلامسياسيّا جهاديّا، وتسلّل إلى دنيا الأحياء يدعو أهلها إلى الانصراف عن الأرض إلى السّماء بدون إبطاء. ففي فراغ السّماء وحدها المعنى، وفي عرائها هي وحدها السّلوى، وما عداها هراء في هراء. إنّه داعية العدم، لا مرام له غير الفناء والخراب يبذرهما في كلّ البيادر الّتي يكدّ فيها بنو البشر لتشعّ الآفاق فرحة وألقا. إنّها طفيليّات النّكد تلمّ بعشّاق القمم لتعطّل فيهم أجنحة طموحهم وتلقي بهم في السّراديب

– 305 –

لا يهمّني أن يقال عنّي إنّني خبيث القلم. هذا الذّمّ، يكيله لي كهنوت الإكراه والقهر الإسلامسياسيّ المتدستر، شهادة لي أنّني، أسوة بعلّيسة والكاهنة والطّاهر الحدّاد وعلي الدّوعاجي وبيرم التّونسيّ وأبي القاسم الشّابّي ومحمود المسعدي والبشير خريّف والحبيب بورقيبة وشكري بالعيد، لن أنضمّ أبدا إلى مواكب المخدوعين ببريق المعاجز في الآء تيمقراطيّة الفرقة النّاجية الباهرة المبهمة، يزعم القائمون بأمرهم أنّها النّور الّذي سيذهب بالجور والعسف في ربوعنا بدون رجعة
صدق إكليروس الزّيف والبهتان، الّذي قصر همّه على « خيامه الدّعويّة »، فقد انحسر فعلا جور الأرض وعسفها وحلّ مكانهما الحقّ الإلهيّ القهّار وجبروته الغاشم. مات الطّغيان، فليحيا الطّغيان. ولا جديد تحت الشّمس. وليأكل العاطلون الجائعون هديا، وليسدّ المحاجون رمقهم بفتات « الدّعوة » الّتي ينهال بها على رؤوسهم زبانية التّقوى وسدنة الدّجل المقدّس في أزيائهم الكاراكوزيّة البغيضة، وليأتي الفناء على تونس من الحدّ إلى الحدّ إن هي رفضت أن تصبح بمحض اختيارها « دار سلام »، واختارت أن تقف في صفّ : أعداء الإسلام

– 306 –

يريدني الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ أن أصدّق أنّ نقص الأدوية في صيدليّاتنا ومستشفياتنا مؤامرة دبّرتها الدّيكتاتوريّة البّائدة لثورة الياسمين المجيدة لإحراجها أمام مريديها الهاتفين بحياتها والمتنعّمين بإنجازاتها. ويريدني أن أصدّق أيضا أنّ الإرهاب مؤامرة هو الأخرى، طبخت وحسمت في معاقل الدّيكتاتوريّة قديما، ولكنّها قابلة للحوار بين أطراف التّوافق الثّوريّ اليوم ليحوز أعداء الجمهوريّة من الإرهابيّين قديما، وسام الشّهادة وتعلّق صورهم في مؤتمرات التّمويه والمراوغة والازدواجيّة الأصيلة، الّتي تقيمها الفرقة النّاجية كلّ سنة في مقرّاتها الفخمة، باعتبارهم شهداء الظّلم والدّيكتاتوريّة، وهلمّ جرّا من هذه « الموبقات » الّتي لاذوا بالجبال لمحاربتها وإزالتها من الوجود، وإشاعة طيّبات الحرّيّة والدّيمقراطيّة بدلا عنها في أنحاء تونس
يريدني الإسلام السّياسيّ، بعد أن تدستر وقطع أشواطا في إنجاز تمكينه، أن أصدّق أنّ سماءه ليست هي من حملت الجهاد في رحمها لعقود من الزّمن، ثمّ وضعته وأرضعته كوثرها الدّعويّ، ثمّ رعته وأنشأته ونافحت عنه باللّسان والمخلب، وباركته ونزّهته من وصمة العنف والكراهيّة والإرهاب والتّأليب، وألقمته ثدي التّفهّم والرّضا فشرب من ضرعها المدرار حليب الدّلال والإغضاء القانونيّين حتّى ارتوى. ألم يقل عنه رأس الفرقة النّاجية بالحرف الواحد إنّه فلذة كبده، أنجبه عنّا ولنا مبشّرا ونذيرا لنسلّم له أمرنا مغلولي العقول؟ ألم يقل عنه بكلّ عنجهيّة إنّه ثقافة « الرّبيع العربيّ »، الجديدة بدون ريب، لا مناص لمحبّي « الثّورة » من القبول بها، ولو كانت في مرارة العلقم وحمرة الدّم؟

– 307 –

لا فرق لديّ بين رأس الفرقة النّاجية، الّذي ارتقى سلّم الازدواجيّة الاستراتيجيّة حتّى منتهاه، وبين صنو الزّعيم بورقيبة المزعوم، الّذي خذلته بديهته وفطنته وثعلبيّته الخارقة وذئبيّته السّياسيّة الّتي تضرب بها الأمثال، فلاذ بالمنطق والحساب يريد أن يقنعنا (أو يقنع نزعة الأبوّة فيه على الأرجح، تلك الّتي قدّمت في ميزانه الولد على الوطن، ولا ضير في ذلك – يهمس في أذنه وعّاظ السّلاطين – فحبّ الولد من « الإيمان ») أنّه من الطّبيعيّ جدّا أن تكون الفرقة النّاجية، الثّانية في قائمة الفائزين بالانتخابات التّشريعيّة، في مقام الأوّل سواء بسواء، وذلك لأنّ الفائز النّدائيّ الأوّل لا يمكنه تجاهل وجود هذا الفائز الإسلامسياسيّ بالذّات، الّذي يليه مباشرة في التّرتيب، فتقهقر طوعا واختيارا، وتزحزح تدريجيّا ليفسح للفرقة النّاجية مكانا على عرش عزّه الأثيل حتّى أضحى الفائز النّدائيّ، بفضل هذا التّدحرج التّوافقيّ الاستراتيجيّ الميمون، في مقام الصّفر، وباتت الفرقة النّاجية هي الكلّ في الكلّ. وسبب هذا التّنازل المنهجيّ يكمن في كون التّوافق، في عرف الفائز النّدائيّ، المتنازل عن فوزه كرما وإيثارا لمن يقف درجة دونه في سلّم التّكريس الشّعبيّ، شرّ لا بدّ منه، على الأقلّ في الظّرف الرّاهن، أي إلى أن يرث الإسلام السّياسيّ المدستر تونس ومن عليها
هكذا تحدّث ساكن قصر السّلطنة مشرّعا صنيعه التّوافقيّ الاستراتيجيّ، متناسيا ما كان صرّح به أثناء حملته الانتخابيّة من أنّه سيقطع الطّريق على قاتلي شكري بالعيد ولطفي نقض ومحمّد براهمي، وطوابير رجال الشّرطة والحرس والجيش. تعهّد الجالس على عرش الزّعيم بورقيبة أن يقطع الطّريق على من ألقوا بعذارى تونس في جبهات جهاد النّكاح، وأفقروا البلاد حتّى باتت على « الحديدة » وهوى دينارها إلى الحضيض. وتعهّد لنساء تونس، اللّواتي أجلسنه حيث هو اليوم، بقطع الطّريق على من يسعون من كلّ سبيل ليطوّقوا رقاب النّساء بأغلال « شريعتهم » العادلة. وتعهّد أن لا يضع يده أبدا في يد من اقترف هذه الجرائم الشّنيعة في حقّ تونس وأهلها. ولكنّه نسي كلّ وعوده الانتخابيّة (مواعيد عرقوب الّتي لا يغترّ بها إلاّ السّذّج) واستهلّ عهده السّعيد، حالما تربّع على عرش الزّعيم الرّاحل، بأن أباح تونس وما فيها ومن فيها للجراد الذّي كان عاث فيها وفي أهلها فسادا وإفقارا وترويعا وإرهابا وقتلا

– 308 –

لا يهمّني أن يقال عنّي إنّي خبيث اللّسان (والقلم) مقذعه. هذا الذّمّ من رهبان المنابر الإسلامسياسيّة المكرّسة شهادة لي بالخروج عن نواميس البلاغة الطّهرانيّة المنمّطة الّتي وشّوا بها ألسنتهم الصّمديّة المأذونة. بلاغة التّفريط والتّهوين والتّلميع والتّطرية والتّليين والتّمييع والتّمسيح واللّملمة والهسهسة والهمسسة (من الهمس) والوشوشة والنّعممة (من قول نعم) واللألأة (من قول لا) الّتي لا تقول الشّيء إلاّ لتردفه مباشرة بنقيضه، كلّه غالبا، أو بعضه أحيانا
أو لم يقل رأس الفرقة النّاجية عن المساواة في الإرث بين الذّكور والإناث إنّها مسألة محسومة شرعيّا، ولكنّها، ورغم هذه المصادرة السّماويّة العويصة، يمكن أن تكون موضوع تفاوض بين العبيد الذّي يعمرون الأرض، يعملون فيها معاول اجتهادهم الحنيف؟ « كيف ذلك؟ » سألته نساء البلد كلّهن، ما عدا الفرقنجويّات (نسبة إلى الفرقة النّاجية) من بينهنّ طبعا، اللّواتي أخذن على أنفسهنّ أنّ ينهضن لانتشال إخوانهنّ من براثن المتسيّبات الوقحات من بنات جنسهنّ، فلم يجب رأس الفرقة النّاجية عن هذا السّؤال لأنّه كان في عجلة من أمره أوّلا، ولأنّ أحسن الكلام ما قلّ ودلّ ثانيا، ولأنّه لا ناسخ لما ترويه السّماء ثالثا، ولا فاسخ لما قرّرته السّنّة الأهلجماعيّة (نسبة إلى أهل الجماعة) المطهّرة الشّريفة رابعا، ولأنّه لا محاباة ولا تنازلات في شريعة القادر القدير خامسا، ولأنّه ما من سبيل لردّ الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ عمّا يريد سادسا، ولأنّه، وهذا هو بيت القصيد، صبّاب ماء على أيدي المؤمنين (دون غيرهم من التّونسيّين) سابعا وأخيرا
أمّا أنا فأقول إنّ أليق مكان للمصابين بانفصام الشّخصيّة، الهائمين في سراديب المدن الفاضلة الّتي لا وجود لها إلاّ في مخيّلتهم المحمومة، هو مصحّة الأمراض العقليّة. لا فرق بين من استعرض هديه عن ظهر قلب، ومن رتّل حيفه ترتيلا بلسان الغيب وسيفه، ومن زيّن باطله ببراهين الويل والرّعب (والرّجم الّذي أضحى أخفّ على ألسنة غربان الشّؤم من شهادة التّوحيد)، وبين من راوغ فلم يرفض تماما ولم يقبل البتّة فنعمم (أي قال نعم) مرارا ولألأ (أي قال لا) مرّات لا تقلّ عنها عددا، ثمّ انصرف عن منبره يرفل في الجلال والأبّهة. لا فرق في نظري بين من قعدت به سلامة صدره فهوى في وحل التّشنيع والتّكفير، ملوّحا للمارقين بنيران الجحيم، وبين من ارتفع به دهاءه الازدواجيّ المنزع إلى عنان السّماء حتّى جاز إلى سدرة المنتهى يمتح من أسرارها وعجائبها ما يزيل به من الأرض أدرانها، ويبرهن به على فسق الفسقة من دعاة الحرّيّات الفرديّة والمساواة في هذا الزّمن الأغبر الّذي تردّت فيه تونس المسلمة قلبا وقالبا في فجاج « الجاهليّة » وفيافيها المخيفة

– 309 –

من يجيز أكذوبة العدالة « السّماويّة »، لا يضيره أبدا أن يلوّث الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ الأرض ظلما. أليست مهمّة المهديّ المنتظر – وهو ليس شيعيّا بالضّرورة، فلأهل السّنّة والجماعة أيضا، مهديّون لا يطالهم الحصر خرجوا فاتحين للدّنيا حالما أخذ الرّبيع العربيّ بزمامها وقلب أحوالها رأسا على عقب – أن يملأ الأرض شريعة عادلة كما ملئت من قبلهم حداثة علمانيّة جائرة؟ ولا أمل في العدل إلاّ إذا استشرى الجور. ولا يكون الثّاني إن لم يكن الأوّل، فهما متلازمان إلى آخر الدّهر. ولأنّهما كذلك، فإنّ استعباد السّماء للأرض سيتواصل إلى الأبد، أي إلى أن يفنى أحد الحزبين، أو أن ينعقد الصّلح بين النّار والماء ويحلّ بينهما السّلام الشّامل الدّائم
ولن يكون ذلك طبعا إلاّ إذا استتبّ الأمر للسّماء تقضي في الأرض وأهلها بمشيئتها الشّرعيّة النّافذة. ذلك هو العدل الإسلامسياسيّ المهدويّ الطّهرانيّ التّطهيريّ، وما سواه هو الجور. لذلك أحلّ « الرّبيع العربيّ » السّماء في دستوره المكانة الّتي هي بها جديرة، وأطلق يدها المباركة تعيث في الدّنيا هداية وتعزيرا وإصلاحا وردعا وتصفية، واختفى « غربان العلمانيّة » الملعونة في أوكارهم النّتنة بعد أن أفحمهم الحقّ الشّرعيّ بأنواره الباهرات. بيد أنّ الكرم الإسلامسياسيّ أبى إلاّ أن يغدق، بهدي من إنسانيّته الغامرة، على هؤلاء المساكين بعض فتات « شوراه » الرّحيمة، فكان التّوافق الميمون، والعرس التّيمقراطيّ المقدّس المنقطع النّظير، ذلك الّذي طارت أخبار نجاحاته في الآفاق، وأصبحت البلاد التّونسيّة بفضله نجما من نجوم الأخبار العالميّة، لا يكاد يغيب اسمها في كلّ نشرة تستعرض فيها بطولات الإرهاب ومآثره الفتحويّة (نسبة إلى الفتح، المرادف القديم للفظة « الاستعماريّة ») الباهرة في شتّى أنحاء المعمورة
ولعلّ أفضل إنجاز لهذا التّوافق المبارك يتمثّل في نجاحه الكامل في تطهير البلاد من دنس العهر المقنّع الّذي كانت تعاني من ويلاته في عهد الدّيكتاتوريّة العلمانيّة الحداثيّة الزّنديقانيّة (نسبة إلى الزّندقة) البغيضة، إذ باحتضار السّياحة (بل موتها السّريريّ تقريبا) وموتها الفعليّ قريبا إن شاء الله تبارك وتعالى، تكون تونس قد تخلّصت نهائيّا من الرّجس واستعادت صفاء روحها ونقاء طباعها. والتّوافق متمّ أمره ولو كره الانعزاليّون، أولئك الّذين يزعمون أنّ السّكّين الإسلامسياسيّ، وإن تدستر، لا يتحوّل أبدا إلى وردة، وأنّ فمه الّذي اعتاد أن يعضّ وينهش لا يرضى – بل لا يقدر – أن ينطق بعبارات الحبّ وأن يقبّل جبين وشفتي من يحبّ

– 310 –

كلّ المنابر المأذونة في المعابد الخارجة عن طورها تردّد بدون انقطاع لروّادها من مدمني الرّبح المعاديّ السّهل: « صوموا، صلّوا، قوموا اللّيل، تحنّثوا، تهجّدوا، اعتكفوا. هذه هي صالحات الأعمال، لا تلتفتوا إلى غيرها، واجتهدوا فيها ما أمكنكم الجهد، فهي الطّريق المعبّدة إلى الجنّة ». جنّة السّماء طبعا، أكّدت الأبواق بكلّ حميّة ديسيبيلاتها المنفلتة. وفي الأثناء، تساءلت محتارا عمّن عساه سيتولّى بناء جنّة الأرض الّتي لا غنى عنها للطّامعين في جنّة السّماء الأخرويّة، يحيون فيها ما يكفي من الوقت لينمّوا رأس مالهم من الحسنات الصّرفة الّتي ستفتح لهم أبواب الجنّة السّماويّة المأمولة على مصراعيها؟ من يتولّى إذن بناء المعامل الّتي لا غنى عنها لسكّان الأرض حتّى يوفّروا ما يكفي من الاعتمادات لبناء المعابد الّتي لا بدّ منها لطالبي جنّة السّماء الأخرويّة؟ من سيصنع الشّاحنات والقطارات والطّائرات والبواخر الّتي ستعمّر الكون وتعلي فيه المآذن قبل أن تقلّ « ضيوف الرّحمان »، طالبي جنّة السّماء، إلى مواطنهم المقدّسة؟
ثمّ تساءلت مرّة أخرى عمّن تراه سيقوم على إدارة المواخير المتنكّرة – على حدّ تعبير فيلسوف الفرقة النّاجية المعتمد -، تلك الّتي تسمّى حقيقة مواخير ودورا للخنى، ويسمّيها المتحذلقون من مردة الرّدّة وأفّاكيها سياحة؟ أليست هذه المؤسّسات الموبوءة هي الّتي تمدّ الدّولة بالعملة الصّعبة اللاّزمة لدفع التّعويضات المجزية للطّامعين في جنّة السّماء من جمهور الفرقنجويّين لينعموا قدر الطّاقة بزينة الحياة الدّنيا من الأوراق الخشخاشة والقطع الرّنّانة، قبل الانتقال – بعد عمر طويل يفنونه في خدمة الرّحمان وطاعته في المجالس البلديّة، والمكاتب الإداريّة والوزاريّة الفخمة، وتحت قبّة البرلمان – إلى جنّة الخلد لينعموا هناك بملذّاتها الحسّيّة إلى أبد الآبدين؟
أليست هذه التّعويضات الحاتميّة (الّتي صرفوا منها لأنفسهم أقساطا مريحة مقابل « جهادهم » الأرضيّ لإقامة « جنّة » الله على الأرض وإحياء خلافته الّتي اندثرت)، هي الّتي ستعفي رهبان اللّيل والنّهار هؤلاء من إكراهات العمل والسّعي والإنفاق، وستمكّنهم، بفضل الواهب الرّزّاق، من التّفرّغ كلّيّا لرياضاتهم ورحلاتهم ورطاناتهم وأدعيتهم ولعناتهم التّعبّديّة الدّعويّة الإرشاديّة التّنقويّة (نسبة إلى النّقاء) التّصفويّة التّنظيفيّة الطّهرانيّة في المعابد أوّلا، ومن بعدها في الأسواق والبرلمانات ومجالس البلديّات وكبريات المؤسّسات الإداريّة والوزاريّة والأمنيّة؟
أليس عجيبا، تساءلت أخيرا، أن يفوز بالدّارين من لا شغل له في الأرض إلاّ المعبد، ويبتلى العاملون في المصالح الدّنيويّة بحرّاس المعبد هؤلاء، يعولونهم ويوطئونهم أكتافهم، لا لشيء إلاّ ليحوّل هؤلاء المتقاعسون الأرض إلى جحيم يعبرون منه إلى جنّتهم السّماويّة ليركنوا فيها إلى الكسل والخمول الأبديّين؟

– 311 –

إذا شاء لك سوء حظّك أن تقع في قبضة من لا يقرأ ولا يفهم من معاصريك، فاحذر أن ينطق لسانك بكلمة واحدة، لأنّه سيعتبر كلّ ما ستتفوّه به، أيّا كان معناه ومرماه، تعريضا به وبأركان وجوده، وسيشهر في وجهك الرّدّ الوحيد الّذي يجيده: سيفه الجهاديّ البتّار. هؤلاء هم فرسان الشّريعة وخدّامها، كرّسهم الإسلام السّياسيّ بكلّ صلف في أحد مؤتمراته، وأحلّ صورهم في صدور محافله الصّاخبة ليرى من لم ير بعد ويدرك أن لا قراءة إطلاقا لمن قعد بهم الذّهن عن الاستيعاب والفهم
فمن هذه الفرقة النّاجية خرج علينا فيلسوف يوما ليعلن، بكلّ رصانة الحكماء وتبصّرهم، أنّ السّياحة عهر. ومن هذه الفرقة عينها ارتقى « خطيب » يوما آخر المنبر ليقسم بأغلظ الأيمان أنّ أردوغان صنو صلاح الدّين الأيّوبيّ. ومن هذه الفرقة نفسها نجم مغتصب جامع « الزّيتونة » في بدايات عهد الحزمة التّراوكيّة المقدّسة الأولى معلنا هو الآخر، بيقين الأئمّة المعصومين الأطهار، أنّ « رأس الفرقة النّاجية، رضي اللّه عنه » هو أقرب أهل تونس – بل أهل المعمورة كافّة -، إلى إلهه، فهو أولى من يسوسهم بما فضّله به إلهه على العالمين
قصر معاصرك هذا، العازف عن القراءة، همّه على التّرتيل والتّجويد، يكرّر ما شاء له التّكرار، لا يملّ محفوظاته، ولا يمجّها ذوقه. آخى بين الكتاب والبندقيّة، فلا يمسك بأحدهما دون الآخر، وللثّانية في نفسه حظوة لما تواتر في متون السّنّة المشرّفة عن الجهاد وفضله وثواب من اختاره من المؤمنين له نهجا. لا يتكلّم بحضرته متكلّم إلاّ سدّ أنفه تقزّزا من نتنه، ثمّ أطلق عليه من سلاحه المأذون أعيرة فألحقه بلطفي نقض وشكري بالعيد ومحمّد براهمي وطوابير الطّاغوت الّذين جندلهم سيفه الإلهيّ المسلول في الجبال والسّهول والوديان، وفي كلّ فجّ عميق
إن كان لا بدّ من كلام يقال لهذا الوحش المتسربل في مسوح القدّيسين – ولا يجدي حديث مع هذا الكائن الملائكيّ النّوازع والهوى -، فليكن ذلك الّذي توجّه به ميخائيل نعيمة إلى صنو له في منتصف القرن الماضي، إذ قال له محذّرا واعظا : إن يكن مذهبي نتانة في أنفك وقذى في عينك، فهو ليس كذلك في أنف الحياة وعينها، وإلاّ لما جادت عليّ بذاتها، وإذن أنت عندما تضطهدني إنّما تضطهد الحياة الّتي هي أمّك وأمّي وأبوك وأبي، وتجعل نفسك أعلم منها بذاتها، وأعدل منها في بنيها؛ ولعلّك يا صاحبي لو تفقّدت قلبك لوجدت أنّ النّتانة الّتي في أنفك إنّما تتصاعد إليك من قلبك. ولعلّك لو تفقّدت فكرك لوجدت أنّ القذى الّذي في عينك إنّما تسرّب إليها من فكرك
ولتكن خاتمة حديثك إليه – فهو قاتلك حدّاً شرعيّا على أيّ حال، ولو نطقت ببراءتك السّماء الّتي جعل سيفه خادمها الطّيّع الأمين – قرارا تنهيه إليه، وإلى من على شاكلته، من لابسي أقنعة « التّسامح » و »الاعتدال » و »الوسطيّة »، وما شاكل هذه التّرهّات السّياسويّة الإسلامويّة من ثمار الازدواجيّة وأطايبها البلاغيّة التّمويهيّة الاستبلاهيّة الاستغبائيّة (نسبة إلى الاستغباء)، فلعلّه يدرك – إن ظلّ في إهابه الخشن الجافي من مكان للبصيرة – أنّ لسانه وسيفه قاصرين عن النّيل من ناموس الكون، ولو نطق الأوّل وضرب الثّاني بتكليف خطّيّ من السّموات السّبع وساكنيها من الآلهة والملائكة والشّياطين والمردة
قل له بكلّ هدوء، وليذبحك بعد ذلك إن شاء، ولا أراه سيتردّد في ذلك، بل لعلّه لن يفسح لك مجالا لتذهب في القول إلى مداه: « لا. لا، يا صاحبي. خذ تساهلك عنّي. فحقّي أن أسلك إلى خالقي السّبيل الّذي يهديني إليه خيالي، لم يأتني من قبضتك ولا من حدّ سيفك » ، بل حقّي أن أعرض عن السّماء إن زيّن لي عقلي ذلك، وأسلك في الحياة غير سبيل المؤمنين بتبعيّة الأرض للسّماء، تماما كما زيّن لك إيمانك الموروث أن تعرض عن الدّنيا وتقبل بكلّيتك على السّماء، لقناعة لديك بتبعيّة الأولى للثّانية. فلتنتش أنت بماء إيمانك القراح، ودعني أترنّح سكرا براح الضّلال الّذي هداني إليه عقلي، أردّد مع أبي نواس قوله لمن أكثر عليه اللّوم على مجونه ودعاه إلى ما هو عليه من الاستقامة والتّقوى 

لَوَ أَنَّ لِي سَكَناً فِي الكَاسِ يُسْعِدُنِي

لَمَا انْتَظَرْتُ بِشُرْبِ الرَّاحِ إِفْطَارَا

الرَّاحُ شَيْءٌ عَجِيبٌ أَنْتَ شَارِبُهُ

فَاشْرَبْ وَإِنْ حَمَّلَتْكَ الرَّاحُ أَوْزَارَا

يَا مَنْ يَلُومُ عَلَى حَمْرَاءَ صَافِيَةٍ

صِرْ فِي الْجِنَانِ وَدَعْنِي أَدْخُلُ النَّارَا

فإن ازورّ صاحبك واكفهرّ من هذا البرهان العقليّ العلمانيّ الإلحاديّ المحسوس، ولا أخاله إلاّ فاعل ذلك وأكثر، فعاجله بالقول الفصل الّذي أشرعه أبو نواس في وجوه أعداء العقل في زمانه، والمتربّصين بأنواره

بَاحَ لِسَانِي بِمُضْمَرِ السِّرِّ

وَذَاكَ أَنِّي أَقُولُ بِالدَّهْرِ

وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَمَاتِ فَادِحَةٌ

وَإِنَّمَا الْمَوْتُ بَيْضَةُ العُقْرِ

وعليه نسج أبو العلاء المعرّي في قوله

إِذَا قُلْتُ الْمُحَالَ رَفَعْتُ صَوْتِي

وَإِنْ قُلْتُ اليَقِينَ أَطَلْتُ هَمْسِي

– 312 –

أنا لا رغبة لي في حمل النّاس على السّير في الدّرب الذّي اخترته لنفسي (ولو فعلت لما اختلفت عن دعاة الإسلام السّياسيّ وهداته ودعاته وأئمّته الأبرار الأطهار)، لأنّني لا أعتقد أنّ سبيلي هو السّبيل الوحيد إلى الفلاح. كلّ مرادي هو أن أعلن على الملإ أنّني طلّقت مبدأ التّسامح واستبدلته، لخيري ولخير الجميع، « بسياسة الاعتراف المتبادل، فالتّسامح هو مجرّد هدنة بين فتنتين أو صدامين، إذ هو يبنى على التّنازل أو التّساهل إزاء الآخر، مع الاحتفاظ بالاعتقاد أنّه مخطئ، أو غير محقّ، أو منقوص الإيمان، أو ربّما منقوص الإنسانيّة. أمّا الاعتراف المتبادل فإنّه يعني أن تتصرّف كلّ جماعة لغويّة أو ثقافيّة أو عرقيّة، بصفتها جزءا من العالم، لا أكثر ولا أقلّ، لا أفضل ولا أدنى
فإن أبينا الانخراط في هذا الدّرب، وأصرّ أتباع الفرقة النّاجية على ملاحقة سراب أسلمة الوجود برمّته – وجودنا ووجود معاصرينا من الأمم المجاورة -، فهذا يعني، بدون أدنى شكّ، أنّنا انحزنا للخيار الخاطئ، خيار « الاصطفاء والاستعداء والشّحن والانتقام والاستئصال » ، وهو ما يفيد بدوره أنّنا اخترنا : السّير على طريق الانقراض المعنويّ والرّمزيّ

– 313 –

ما نحتاجه اليوم، في تونس وفي كلّ العالم العربإسلاميّ، يمكن اختزاله في كلمة « لماذا »، نفسخ بها من أفقنا، وإلى الأبد، لفظة « هذا » اليقينيّة. السّؤال إذن بدل التّقرير، والتّداول بدل الإلزام الشّرعيّ، والأفق الرّحب بدل « هذا » القبر الشّرعيّ بالذّات. والقلم بدل « هذا » الوحي الّذي هو جماع العلم، والعاجل المحسوس بدل الآجل الغيبيّ لأنّني لا أثق في غير ما أرى وأسمع وأتحسّس وأتشمّم، ولأنّني، أسوة برهين المحبسين، أكره أن أسلك سبل الموالاة

وَيَنْفُرُ عَقْلِي مُغْضَباً إِنْ تَرَكْتَهُ

سُدًى، وَاتَّبَعْتُ الشَّافِعِيَّ وَمَالِكَا

وباختصار لا اختصار بعده: الحياة بدل الموت. « لماذا » تقول عالم الموجودات والمحسوسات والمعقولات والمجرّدات، وتنهض بالأسئلة الّتي يهمّ الإنسان أن يجيب عنها، ويقدر على ذلك لأنّها منه وإليه. الحاضر إذن بدل الغائب. عصفور على شجرة الدّنيا بدلا من ألف عصفور وعصفور على شجرة الغيب. وباختصار لا اختصار بعده: الآن وهنا. لو أدركنا أن لا وجود في الدّنيا لما يكفل الطّمأنينة لطالبها، إلاّ الموت، ذاك الّذي قال فيه أبو العلاء المعرّي مقرّضا

لَوْ نُخِلَ العَيْشُ لَمَا حَصَّلَتْ

شيْئاً، سِوَى الْمَوْتِ، يَدُ النَّاخِلِ

لو أدركنا هذه الحقيقة الرّهيبة لاتّخذنا « لماذا » لنا شعارا نرفعه في كلّ حين وآن في وجوه سدنة العقائد المتكلّسة والقائمين على هياكلها الثّاوية على عروشها، ولكانت هذه الكلمة اليتيمة جاءت إلينا بمكمّلاتها الضّروريّة من آلات الاستفسار والتّنقيب والكشف، ولكنّا خرجنا إذن من فخّ التّقرير إلى مطلق السّؤال، ولكنّا نجونا إذ قهرنا الموت في « هذا »، تريدنا أن نلج القبر طواعية ونجعل لنا الجبّانة وطنا، والأموات لنا قدوة. تريدنا « هذا » أن نقبع في عدمنا ونجعل فناءنا لنا قبلة. وما أكثر ما تقرّر « الهذوات » قبلات الورع في الأدغال الشّرعيّة الّتي جفاها السّؤال. وباختصار شديد، العقل يسأل من أشاح عنه بوجهه وأقبل على قبلة الاستكانة والسّجود: قل لي أيّ قبلة تستقبل، أقل لك ما مرتبتك في سلّم العبوديّة.
ويحذّرني العقل من الانسياق لما تردّده منابر البلاغة الشّرعيّة المعبّدة الّتي لا يخطر ببالها أبدا أنّ السّؤال بضعة من اللّغة، وترى أنّ الأمر كلّه كتاب جرى به قلم المشيئة في فترة مّا ليست من مجال الدّيمومة، ستظلّ أبدا بمنأى عن قبضة التّاريخ، لا يطالها العقل ولا يتعلّق منها بسبب، ويطمح إليها القلب فلا يصيب منها إلاّ رؤى في كنه السّراب. يزعم فرسان هذه المنابر أنّ الجنّة لا يدخلها إلاّ العبيد، وتغلق أبوابها بالمتاريس في وجوه من شغفهم السّؤال حبّا فألهاهم عن القبلة وأفضى بهم إلى النّار
وقال لي العقل بلسان أبي العلاء المعرّي

تَقِ النَّاسَ وَاحْذَرْ أَنْ يَغُرَّكَ نَاسِكٌ
بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ تَغَيُّرِ حَالِهِ

فَمَا أَنْفُسُ الأَقْوَامِ إِلاَّ تَوَابِعٌ

لِقَائِلِ زُورٍ، مُفْرِطٍ فِي مُحَالِهِ

فَهَذَا الَّذِي فِي صَوْمِهِ وَصَلاَتِهِ

كَذَاكَ الَّذِي فِي حَلِّهِ وَارْتْحَالِهِ

فَكَذِّبْ زَعِيماً قَالَ: إِنّيَ دَيِّنٌ

فَمَا دِينُهُ إِلاَّ ضَعِيفُ انْتِحَالِهِ

يُمَاحِلُ فِي الدُّنْيَا الْخَؤُون، وإِنَّمَا

يُؤَمِّلُ نَزْراً فَانِياً بِمُحَالِهِ

وبعد، لماذا نرتهن لقبلة لا تغني عنّا شيئا، نزعم أنّ بيدها يومنا وغدنا وقدرنا كلّه؟ أمّا هي فلا تقول شيئا. وكيف يقول من لا لسان له ينطق عنه بما يريد، حقيقة أو مجازا؟ لماذا نغلّ أيدينا وأرجلنا بأصفاد ما أيسر علينا نزعها، نتوهّم أنّنا نهلك لو أزلناها من معاصمنا وأقدامنا، واستقبلنا الشّمس بوجوهنا نتفرّس فيها بعيون لا تطرف؟ لماذا نتدلّه حبّا بعصا المنع والحرام والزّجر نبيحها ظهورنا لتسلخها بتعاليمها وضوابطها وكوابحها وحدودها سلخا؟ لماذا نكتب بأيدينا قرار سجننا وإعدامنا؟ لماذا نصوم عن الإنسان بحثا عن ملاك فينا لا وجود له؟ كم من « لماذا » يجب أن أضيف إلى ما سبق ليكتمل مهرجان الرّقّ؟ أدرك اليوم أنّ الوهم أصل البلاء في الحيّ يزيّن له أنّه أنجز حلمه واستكمله ونمّقه فبات في مقام الرّائعة، فيعمد إلى مكمن الأحلام في روحه فيطمسها ويعكف على ما أقامه منها أمامه كالقبلة، يوالي الرّكوع والسّجود، وينظم الأدعية والابتهالات تباعا. فما لي إذن لا أتوب عن الكمال وقد أدرجت فيه كما يدرج الأموات في الأكفان، لا أنفكّ أترنّم بقول أبي العلاء

العَقْلُ يَشْهَدَ أَنَّنِي فِي لُجَّةٍ

مِنْ بَاطِلٍ، وَكَذَاكَ هَذَا العَالَمُ

يسرّ إليّ الكمال أن ليس في الدّنيا أفضل من قبلته، ويحذّرني أن أنصرف عنها إلى غيرها من قبلات الزّيغ، لن أجد فيها ضالّتي أبدا. فلألزم مركعي إذن، ولأصم أذنيّ عن كلّ ما عداه لعلّي، إن ثابرت وأدّيت إلى قبلتي ما وعدتها من الولاء، أبلغ ضفاف الأماني القصيّة، وألقي هناك بعصا التّرحال. ولكن سرعان ما يثوب إليّ رشدي فألقي عنّي بجبّة الحلاّج لأرتدي بزّة السّابح وأقتحم غمار اليمّ. أقيانوس السّؤال، لا ينضب معينه أبدا، يهدم أوثان الكمال والطّمأنينة والعافية، ويبيح لحمي لقروش الأعماق تنهشني لتؤجّج فيّ حرائق القلق والحيرة سؤالا يتلوه سؤال، يعقبه سؤال، ينهض بها فيّ العقل كرّة أولى، يتحدّث على لساني إلى القائم على بلاغة الجمود والموت وقد اعتلى المنبر مكبّرا مهلّلا، يدعو الأحياء إلى الاستعاضة عن الثّياب بالجنن

كَلاَمُكَ مُلْتَبِسٌ لاَ يَبِينُ

كَالْخَطِّ أَغْفَلَهُ النَّاقِطُ

وكرّة أخرى يسخر ممّن يزعم أنّه أمسك بالحقيقة، فهي في قبضته سجينة حتّى يأتي الفناء على الكون، يردّد عليه ما قاله رهين المحبسين، وهو في مهبّ السّؤال

وَلَقَدْ حَفَرْتُ عَنِ اليَقِينِ بِخَاطِرٍ

مَا كَادَ يَبْلُغُ حَفْرُهُ الإِنْبَاطَا

وتكلّم فيّ العقل مرّة أخيرة، يذكّرني أنّ الذّات هي القياس، وهي المرجع، ويحثّني أن أرمي عنّي بلغو اللاّغين على منابر الهوى، يزيّن لهم الكبر أنّهم أخذوا بناصية الدّنيا وأحلّوا من فيها منهم محلّ الأنعام

وَآعْرِضْ أَحَادِيثَ مِنْ قَوْمٍ أَتَوْكَ بِهَا

عَلَى قِيَاسِكَ، تَحْلِفْ أَنَّهُمْ وَلَعَهْ

وهل يكون الإنسان جديرا بإنسانيّته إن صام عن الدّهشة الّتي كانت سبيل سقراط إلى كأس الشّوكران الزّعاف، تجرّعه دون أن يطرف له جفن، أو ترتعش يمينه الّتي ارتفعت به إلى شفتيه؟ ذاك هو الإنسان يبني كيانه إذ يهدمه، فلا معنى لكيان لا يتناول منه معول الذّات ما تكلّس من جوارحه. فأن يجتثّها بنفسه، ويرضى بالنّقصان الذّي سيورثه غيابها، خير له من أن يستمرّ في وهمه بكمال قياميّ لا حقيقة له. فلا خير في كمال جوهره آيات تقول الأرض بلغة السّماء أو بلعائنها، لا فرق. ذلك لأنّ لسان السّماء لا يحسن الحديث إلاّ عن مشاغل السّماء، ويخطئ المرمى إن ناب عن الأرض في التّعبير عن همومها الدّنيويّة

فرج الحوار

يتبع