اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (14) : الاستبداد قبلة وأفقا ومنهاجا

الإصلاح الدّينيّ هو اليوم المدخل لقطع الطّريق على هجوم الجنون في التّاريخ، على تحويل المؤسّسات التّعليميّة والإعلاميّة إلى منابر للتّكفير والفتاوى، المضحكة حينا والمبكية حينا، وعلى تحويل المستشفيات إلى مسالخ لقطع الأيدي، وتحويل السّاحات العامّة إلى أمكنة يتبارى فيها المصابون بالطّاعون العاطفيّ على رجم المحبّين، وشنق المفكّرين الأحرار
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، 107

– 314 –

ليس الإسلام هو محلّ اهتمامي في هذه التّأمّلات الحزينة، فالإسلام السّياسيّ »، قبل تدستره وبعده، هو كلّ ما يعنيني في هذا المقام أوّلا، ولأنّ : نفي الأديان أو إثباتها ليس ضمن اهتماماتي [ثانيا. أنا] لا أدافع عن الأديان، ولا أشكّك بها، وذلك لأنّي أؤمن بحقّ كلّ إنسان في اعتناق أيّ فكر وأيّ دين، وكلّ الأديان والفلسفات حقيقة في عقول وقلوب معتنقيها، وليست كذلك في عقول وقلوب آخرين

– 315 –

لن نخرج من بوتقة الانغلاق والتّقوقع والاصطفائيّة، وما يتمخّض عنها من ازدراء الآخر واضطهاده وإلغائه، إلاّ إذا اقتنعنا أنّ : الإسلام دين من الأديان، وفكرة من الأفكار، و[أنّ] الحقيقة يدّعي الجميع امتلاكها، وليست حكرا على المسلمين

– 316 –

ما من شكّ في أنّ عقل الفرقة النّاجية « هو عقل مصفوفات وقوالب جامدة، يقسّم النّاس إلى صنفين: (نحن وهم)، يرى في الـ(ـنحن) المزايا الجميلة والصّفات الرّاقية، فيما يرى في الـ(ـهم) ما هو قبيح وسلبيّ. و[هو] يرى في مواقف « نحن » إنّها هي الصّحيحة، وإنّها الحقّ بعينه، فيما يرى في مواقف « هم » إنّها الغلط بعينه. والتّشخيص النّفسيّ لهذه الحالة أنّ هذا العقل مصاب بـحول إدراكيّ. فحوله الخارجيّ لا يريه في الـ « هم » أيّة صفة إيجابيّة، أو سلوك مهذّب، أو شيء جميل. وحوله الدّاخليّ لا يريه في الـ « نحن » أيّة صفة سلبيّة، أو سلوك سخيف، أو موقف خاطئ. والعلّة في ذلك أنّ [هذا] العقل متشكّل من صور نمطيّة، أو قوالب إدراكيّة تتضمّن تعميمات ساذجة ذات وجهين: أبيض مشرق جميل بخصوص « نحن »، وأسود قاتم بخصوص : هم

– 317 –

نحن في أمسّ الحاجة إلى قانون رادع يردّ عنّا صولة « الغرور الإيمانيّ، وهو أسوأ أنواع الغرور لأنّه يشعر صاحبه أنّه يملك الحقّ في دفع النّاس نحو الفضيلة باسم الله » ، أو باسمه الشّخصيّ، لا فرق

– 318 –

الإسلامسياسيّون، قبل تدسترهم وبعده، يتعاملون : مع الآخر الملحد، أو الآخر الدّينيّ، أو الآخر المذهبيّ، أو الآخر الغير ملتزم بالعبادات على أنّه مجرّد شيء منحرف عن جادّة الصّواب، مجرّد ذنوب تمشي على الأرض، مجرّد رمز لتغييب العقل، مجرّد شخص يعرف طريق الصّواب، ويتعمّد سلوك طريق آخر. والواقع يقول إنّ للحقيقة أكثر من وجه، وأحد وجوهها هو الإيمان بدين معيّن والالتزام به

– 319 –

ليس لدى الإسلام السّياسيّ، المعادي للعلم قلبا وقالبا، إلاّ « ملاحقة التّطوّر الغربيّ وربطه بآيات قرآنيّة باسم الإعجاز العلميّ. ولو لم يكتشف الغرب النّظريّة الّتي ربطوها بالآية الفلانيّة لما قالوا إنّها تشير إلى اكتشاف علميّ، ولا بعد مليون سنة » . وهذا يدلّ، بما لا مجال للشكّ فيه، أنّ الجبّانة، باعتبارها تجسيدا للسّكون السّرمديّ، وبالتّالي للأبد الإعجازيّ، هي أنسب فضاء لإجراء التّجارب العلميّة الشّرعيّة الضّروريّة لاستمرار الحياة، ومن أهمّها أسرار القبر وأهواله، وأخبار المعاد وويلاته ونعمه

– 320 –

علاقة الإسلامسياسيّين مع الله : مبنيّة على أساس تجاريّ تحدّده معادلات رياضيّة، فهـ[ـم] يفكّرون في ما سيحصلـ[ـون] عليه مقابل فعل الخير، ويفكّر[ون] في تحقيق المعادلة الرّياضيّة الّتي توصلـ[ـهم] للمكسب المستهدف من الحسنات

– 321 –

إنّ التّسميات الطّنّانة الّتي يطلقها الإسلامسياسيّون على فصائلهم الدّعويّة والجهاديّة، والّتي تجعل منهم دون سواهم « حرّاس العقيدة » و »حماة الدّين » و »جند الله »، إنّما تلمح في النّهاية إلى : دين يحميه الإنسان. والمفترض أن يقوم الدّين بحماية الإنسان، من خلال خلق حالة توازن نفسيّ، وعلاقة متّزنة بين الله والإنسان، والإنسان والإنسان الآخر. في اللّحظة الّتي يحتاجني الدّين لأحميه أصبحت (كذا) أنا الدّين، وأصبح الدّين مجرّد فكرة بحاجة إلى حماية من إنسان. إنّ الإنسان الّذي يحمي الدّين أصبح هو الدّين. في الوقت الّذي يشعر فيه الإنسان أنّ فكرة وجود الله معرّضة للخطر، وقد تزيحها فكرة أخرى، فعليه أن يتأكّد أنّ هكذا إله ليس له وجود. نعم، الإله الّذي يحتاج منّي أن أحميه ليس إلها. الخالق لا يحتاج منّي أن أدافع عن فكرة وجوده، ولا يحتاج منّي أن أنصّب نفسي محاميا أو ناطقا رسميّا باسم السّماء

– 322 –

فليتذكّر رأس الفرقة النّاجية قول أبي الطّيّب المتنبّي، مؤكّدا أنّ لكلّ امرئ من دهر ما تعوّد. وقد تعوّد غبطته الرّكوع لإله آبائه وأسلافه. فليواظب على ذلك إن شاء، وليعف من هذا الواجب الثّقيل من طلّق الإله بمحض إرادته أو اختار له إلها غيره، كما فعل عرب « الجاهليّة » عندما تخلّوا عن دين آبائهم الوثنيّ واعتنقوا دين الإسلام التّوحيديّ.
هذه الاعتبارات، وغيرها ممّا في معناها، لا تخطر ببال رأس الفرقة النّاجية، وهو لذلك يعتبرها من قبيل التّجديف لأنّ الدّين، في نظره، شأن جماعيّ أو لا يكون. أمّا إذا تجرّأت وذكّرته أنّ الإيمان بدين مّا، بغضّ النّظر عن عدد المنتسبين إليه اسميّا أو شكليّا، يظلّ أمرا شخصيّا بحتا، هبّ آية الله في وجهك مستنكرا، وذكّرك بدوره أنّ من لا دين له لا وطن له، ومن لا دين له لا ذمّة له، ومن لا دين له لا أخلاق له، ومن لا دين له لا إنسانيّة له، ومن لا دين له لا حرمة له، ومن لا دين له لا حقّ له في الوجود، ومن لا دين له لا يلومنّ إلاّ نفسه إنّ جزّ عنقه كما تجزّ أعناق الأنعام يوم عيد النّحر

– 323 –

السّرّ في كون الإسلامسياسيّين، ومن سار على نهجهم من جمهور المتديّنين، : لا يطيقون أن يقول أحدهم « الدّين أمر شخصيّ » [فـ]ـلأنّهم لا يؤمنون بالحرّيّة الشّخصيّة، ويؤمنون بوجوب أن يكون الجميع مطابقين لهم. وهذه المطابقة يحكم عليها من الشّكل الظّاهريّ للآخرين. وغالبا ما تكون المزاجيّة هي الفيصل في انفعال أحدهم لأجل الدّين، فقد تجده ينفعل ويصرخ بطريقة غريبة حين يجد شابّا قام بوشم كتفه، ويخرس (كذا) حين يرى منافقا يحاول استغلال الدّين لأسباب سياسيّة أو مصلحيّة شخصيّة لأنّه باختصار لا يخدش شكل المجتمع الظّاهريّ

– 324 –

لا أدري لماذا يطالب الإسلامسياسيّ بحرّيّة المعتقد لنفسه، ويحرص عليها حرصه على حياته، ويحرص على حرمان غيره منها حتّى ليحمله حرصه أحيانا على التّفريط في حياة خصمه العنيد؟ بل إنّه ينعت من لا يشاركه بدعته المذهبيّة بأنّه مارق وضالّ، خائن للّه والوطن. ولو جازف أحد العلمانيّين الملاحدة الخونة فذكّر هذا الأرعن أنّ لكلّ بشر ضالّه، وأنّه هو نفسه يعتبر ضالّ جاره لأنّ هذا الأخير هو مثال المؤمن في نظر نفسه، لانقضّ عليه سيف الله فذبحه من الوريد إلى الوريد. ألا يعني هذا أنّه لا وجود للإيمان أو المروق، والحقّ والباطل، والخير والشّرّ على وجه الإطلاق؟ كلّ ما في الأمر أنّ كلّ قرد في عيني أمّه غزال، وكلّ غزال في عيني غير أمّه قرد

– 325 –

أذكر أنّ أحد صغار الموظّفين القياميّين من جيراني، كان يشتغل عاملا في إحدى المؤسّسات الجامعيّة بسوسة، قال لي مرّة، وقد التقينا في جنازة أحد جيراننا، إنّه درس كلّ أديان الأرض وفحصها ومحّصها وقارن بينها بمنتهى الموضوعيّة، وانتهى من دراسته المعمّقة هذه إلى نتيجة مفادها أنّ الإسلام هو أفضل الدّيانات وأكملها بدون منازع، ولذلك محضها لنفسه دينا
لم أكلّف نفسي مشقّة التّشكيك في تبحّر جاري في علم الأديان المقارنة، أو تذكيره بأنّه ورث دينه عن والديه كما ورث عنهما بعض ملامحه، واكتفيت بالقول إنّني لم أحظ مثله بفرصة الاطّلاع على أديان المعمورة كلّها، ولكنّي، على قلّة تحصيلي في هذا الميدان الشّاسع العويص، لا أشاركه الرّأي أنّ الإسلام هو أفضل العقائد وأكملها. وزدت أنّه لا وجود في نظري لعقيدة أفضل من الأخرى، ولا أعتقد أنّني في حاجة إلى ربّ أشرعه في وجه غيري كالسّلاح الفتّاك لترويعه أحيانا وإزهاق روحه أحيانا أخرى، وأنّني أسعد « كافرا » بهذا الرّبّ بالذّات منّي مؤمنا به على طريقة الإسلامسياسيّين، لا فرق لديّ بين معتدليهم وخلفائيّيهم ومتعصّبيهم ومتشدّديهم وسلفيّيهم وجهاديّيهم ودواعشيّيهم ومنتحر-شهدائيّيهم، ومن لفّ لفّهم من الفرق والملل والنّحل والبدع، ما ظهر منها وما قد يتجلّى بين يوم وآخر فيزيد عدد الجبهات الحاليّة جبهة جهاديّة إضافيّة، وأنّني – وهذا هو المهمّ – أشعر أنّني، بدون هذا الإله، أكثر ولاء لتونس ممّن قرن حبّها (إن صدق في زعمه، ولا أظنّ من همّه الخلافة يقنع بمسقط رأسه وطنا)، في قلبه بحبّ الخلافة والجهاد والجنّة ونعيمها وحور عينها.

– 326 –

كم أودّ لو أنّ رأس الفرقة النّاجية وأنعامه تواضعوا بعض الشّيء فأقرّوا، كما أقرّ بذلك غيرهم، أنّ : كلّ العقائد وفلسفات الوجود والأفكار والنّظريّات مختلف عليها. وكلّ إنسان عليه أن يعلم ما يؤمن أنّ ما يؤمن به مطلق في عقله فقط، ونسبيّ بصورة عامّة، وقد تتغيّر قناعته يوما مّا، [وأنّ] تفهّم الآخر واحترام عقله هو معيار الرّقيّ والتّحضّر طالما أنّ أفكار الآخر لا تؤدّي إلى إلغاء الآخرين. المشكلة ليست في أن يرى الإنسان نفسه أفضل من الآخر، فهذا أمر طبيعيّ. المشكلة هي أن يتعامل مع الآخر من منطلق أنّه أرفع وأسمى. الواقع يقول إنّ الإيمان حقيقة واقعة والإلحاد حقيقة واقعة، ويجب احترام جميع الحقائق

– 327 –

ماذا ترى يكون ردّ جمهور الإسلام السّياسيّ المدستر لو جازف أحد فذكّرهم – والذّكرى تنفع المفكّرين، وتستفزّ المؤمنين – أنّ « إثبات وجود الله للملحد أمر صعب جدّا، بقدر إثبات عدم وجود الله للمؤمن؟ » لذلك : قد تجد مؤمنين يلحدون وملحدين يؤمنون، وهذا أمر طبيعيّ جدّا، وغير مستغرب. وتجد أيضا مؤمنين يزدادون إيمانا وملحدين يزدادون إلحادا، وهذا أمر طبيعيّ. من يشعر بوجود الله يجد أدلّة منطقيّة ومقبولة عقلا، ومن لا يشعر بوجود الله يجد أدلّة عدم وجوده منطقيّة ومقبولة عقلا
ألا يعني ذلك في النّهاية أنّ الله ليس في حاجة إلى خدمات الإسلاميّين أو غيرهم، بل لعلّ إصرارهم على التّكلّم بالنّيابة عنه، والذّود عن منهاجه بالعنف المتوحّش، هو ما يزيد المتوجّسين منه توجّسا ونفورا؟ ألا يعني ذلك أيضا أن لا إيمان ولا كفر (وهما وجهان لنفس العملة) بالإكراه؟

– 328 –

لا خوف إذن على المؤمن من وجود الملحد، ولا خوف على الملحد من وجود المؤمن. فما على المؤمن إلاّ « أن يتفهّم أنّ الملحد » ليس لله وللإسلام عدوّا كما يتوهّم. كلّ ما في الأمر أنّه « لا يشعر بوجود الله، و[هذا] الموضوع لا يخصّ المؤمن، بل يخصّ المؤمن والملحد فقط ». وفي نفس هذا السّياق، يتعيّن على : المؤمن أن يعلم أنّ الملحد ليس لديه القدرة على الدّخول إلى قلبه، وسلب الإله منه إلاّ إذا كان هو غير متمسّك بوجود الإله في قلبه. وعلى الملحد أن يعلم أنّ المؤمن ليس له قدرة على إدخال الإله في قلبه إلاّ إذا أراد هو أن يؤمن به بكلّ اطمئنان

– 329 –

إن كان مراد الإسلامسياسيّين أن يبيّنوا للضّالّين السّبيل إلى الله، فليعلموا إذن « أنّ الله لا يعرف بالدّين، ولا ينفى بالعلم، بل يستدلّ عليه بالفلسفة أو الأدلّة العقليّة. وهو لا يثيب لمجرّد إيمان أحد من المؤمنين به، ولا يعذّب لكفر أحد من الكافرين به، إنّما يثيب المحسنين بإحسانه، سواء آمنوا به أو ألحدوا، ويجزي المسيئين بعدله أيضا بقطع النّظر عن عقيدتهم، والأدلّة تشير إلى أنّه غير مهتمّ بمسألة الإيمان به، بقدر ما يريد من الإنسان أن يزداد تأنسنا وتعقلنا » . أمّا الإله الّذي اتّخذه رأس الفرقة النّاجية له ربّا فهو صنو للطّاغية الجبّار الّذي يوقع بكلّ من أشاح عنه بوجهه. فلا عجب إذن أن جعل له التّوحّش والبربريّة منهاجا
الإله الإسلامسياسيّ يشبه بالفعل الحكّام المستبدّين، وإن كان « أكبر [منهم] حجما، وأكثر قوّة وقدرة ». لذلك يتحدّث عنه دعاتهم « بصوت عال وبوجوه مكفهرّة » ليجعلوا حياة أعدائه « رعبا وخوفا دائما ». فالغاية أوّلا وآخرا هي في حمل هؤلاء الأعداء على الاختباء « كالجرذان » لأنّه من الضّروريّ « أن تنتشر ثقافة الخوف، ويجب أن ترتعب قلوب المؤمنين ». والويل كلّ الويل : للمخانيث الجبناء [الّذين يحاولون أن] يجعلوك تظهر بمظهر الإله المحبّ، وليس بمظهر الإله المخيف، ويريدون من النّاس أن تواجه الفكر بالفكر
لكلّ ذلك يغضب الإسلاميّ الجهاديّ، ويشهر سلاحه عاليا في وجه كلّ من يجرأ على القول إنّ « الدّين شأن شخصيّ » لأنّ كلّ شخص سيحاسب على ما أتت يداه هو، ولن يحاسب أحد مكان غيره، لأنّ الله لا يأخذ المؤمن بجريرة الكافر، ولو فعل لكان شبيها بالطّغاة الذّي لا يستنكفون من ذلك

– 330 –

ما من شكّ في أنّ دينا يقصر طموحه على القميص والمنديل والحجاب والنّقاب والجلباب لدين يستهين بالرّوح، فضلا عن امتهانه للجسد. إنّ هذا الدّين لا يليق بالبشر لأنّ الإنسان العاقل لا يحتاج دينا يزدريه قلبا وقالبا. والعجيب في الأمر أنّ أقطاب الإسلام السّياسيّ و »علمائه »، ومن انخرط في نحلتهم من عوامّ المسلمين، « يتحدّثون عن الله وكأنّهم يتحدّثون عن هتلر، لا يهتمّون بمدى قناعة الآخر، ومدى شعور الآخر بجوهر الإيمان بالله، فالنّتائج الشّكليّة هي في المستوى الأوّل، فيكفي أن تصلّي وتقصّر ثيابك وتستعمل السّواك هنا، وتتختّم باليمين وتطلق اللّحية هناك، خوفا من جهنّم أو طمعا في حور العين، ومن غير المهمّ أن تصل إلى عمق الإيمان بفلسفة الله، وفلسفة الموت والحياة

– 331 –

قال حسننين السّرّاج معرّفا الإسلام السّياسيّ من خلال تجربته الشّخصيّة : « يمكنني أن أصف نفسي في تلك المرحلة (بالوضاعة والتّخلّف والسّقوط والانحطاط والبشاعة والسّاديّة والابدائيّة، وكلّ وصف سيّء في قاموس اللّغة العربيّة. الواقع أنّني لم أكن أكثر من شيء مشوّه دخل في جسد إنسان عن طريق الصّدفة. كنت مجرما بامتياز. نعم، الآن أحكم على نفسي، حين كنت بتلك العقليّة المنحطّة، بأنّي كنت مجرما مع أنّي لم أؤذ بشرا بيديّ، إلاّ أنّ مجرّد تعاطفي مع مجرمين قتلة، ومجرّد تفكيري بأنّي أمتلك الحقيقة، وغيري يمتلك السّراب، يعتبر جريمة من الطّراز الرّفيع. باختصار، كنت أرى نفسي سكرتيرا للإله، وناطقا رسميّا باسمه. والمحبط أنّ الدّنيا ملأى بهذا النّموذج الّذي يسنح لنفسه باتّخاذ قرارات باسم الله ونيابة عنه

– 332 –

الإسلاميّ السّياسيّون، والمدسترون منهم بصورة خاصّة، لا يستنكفون من التّهديد بـ « استباحة » خصومهم، بل وباستئصالهم أيضا، كما سبق أن صرّح بذلك أحد أقطابهم في قلب شارع الحبيب بورقيبة. والحقيقة أنّه « ليس عند المؤمن من وصم مخالفه بالكفر والزّندقة، ولأسباب لا تتطلّب حتّى ما هو أدنى من ذلك »، وبإعدامه إذا اقتضى الأمر ذلك. وتجدر الإشارة أنّ أحكامهم هذه تتّسم بالتّأبيد، وتبتعد عن المرحليّة، وتكون معبرا ومبرّرا لكلّ الشّناعات الّتي ارتكبت وترتكب بحقّ الآخر المخالف بالرّأي. والمؤمن مضطرّ، بل من صلب عقيدته أن يتّهم مخالفيه بأنّهم ليسوا على الطّريق الصّواب

– 333 –

« تقديس مخلوقات الله واحترامها هي أسمى طريقة للتّواصل معه وتعظيمه. أمّا تقديس الله، وتحقير مخلوقاته، فهو استخفاف بالخالق، وهو لون من ألوان التّملّق الّذي اعتاد عليه البعض كمنهج في حياتهم اليوميّة للوصول لدرجة أعلى في الوظيفة، فهم يتعاملون مع الله بنفس الفلسفة الّتي يتعاملون بها مع مديرهم، وهي فلسفة التّملّق والتّزلّف الّذي يوازيه إيذاء الآخرين للوصول لمنصب أعلى. هذه الفلسفة لا تنجح أبدا مع الله، فالله يريد من الإنسان أن يحترم مخلوقاته، ولا يريد منه أن يحتقرها ثمّ يجلس على السّجّادة ليقول كلمات تمجيد بحقّ الله
تلك هي شريعة الله الّتي مسخها الإسلاميّون على مرّ العصور وحوّلوها إلى سلاح فتّاك. وهي النّتيجة الحتميّة للذّهنيّة الانقلابيّة الّتي تحدّد سلوك الإسلام السّياسيّ، يصبح الدّين بموجبها هو من يحتاج إليهم، وليسوا هم من يحتاجون إليه

– 334 –

الإسلام السّياسيّ، زمن السّرّيّة أو زمن الشّرعيّة، يؤمن إيمانه بالله بالمبدأ المكيافلّي القائل بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة. وهو لذلك لا يستنكف من الكذب والازدواجيّة والرّياء والخداع والعنف، بل وباستباحة الدّماء وإراقتها كلّما أحسّ بالخطر. ولكن غابن عنها أنّ هذا المبدأ خاطئ من أساسه لأنّ الغايات النّبيلة (وهو يؤكّد لأنصاره وأعدائه، ولله الّذي جعل منه « إماما » لفرقته النّاجية، أنّ مقصده نبيل) يجب أن تحقّق بطرق نبيلة. أمّا ادّعاء تحقيق غتية نبيلة بوسائل وضيعة (بل إجراميّة ودنيئة في غالب الأحيان)، فهو في الواقع تحقيق لغاية قمّة في الوضاعة، لا تحتلف بشيء عم الطّريقة الّتي تحقّقت من خلالها

– 335 –

في سيّارة التّاكسي الّتي أقلّتني ذات يوم إلى النّزل الّذي أمارس فيه، يوميّا تقريبا، جريمة التّفكير في مخرج لتونس من وحل الإسلام السّياسيّ، مع بعض « الفسقة » و »المارقين » الّذين اعتنقوا مثلي دين الانعتاق من ربقة الإرث الإسلامويّ المقدّس (الّذي جادت به علينا صدفة الميلاد ولم نجد فيه، بعد أن أدركنا وتفحّصناه بمجهر العقل ما يجعله أثيرا لدينا كما هو لدى الإسلاميّين قديما وحديثا)، استمعت إلى صوت أحد صبيان المجوّدين وهو يرتّل آيات من القرآن في وصف الجحيم وما أعدّه اللّه فيه للمشركين، المنكرين لشخصه تعالى والكافرين بناموسه القويم، من أنواع العذاب والتّنكيل الّتي يفترض أن تقشعرّ لذكرها الأبدان. ولكن يبدو أنّ بدني سوّي من غير طينة هذه الأجساد الحسّاسة لأنّني لم أشعر، وأنا أستمع إلى الصّوت النّشاز بأيّ أثر لقشعريرة الرّهبة
لم يسألني صاحب التّاكسي إن كنت أرغب في الاستماع مثله إلى هذا التّرهيب المخيف أو لا، فالسّيّارة سيّارته ولا دخل لزبائنه في ذوقه الإذاعيّ السّويّ. ولو كان تنازل عن حقّه بعض الشّيء وتوجّه إليّ بالسّؤال، لكنت أجبته بكلّ لطف أنّ السّيّارة هي مكان عمله ومصدر رزقه، وهي – بصفتها تلك – ليست ملكا خالصا له ما دام يبيحها لغيره بالأجرة، وعليه فهي ليست مؤهّلة للاضطلاع بوظيفة المسجد. فإن أراد أن يحترم نفسه وعمله وحرفاءه، فلا بدّ له من الإقرار أنّ الاستماع إلى المقرئين والمجوّدين والمرتّلين، بدلا من الانتباه إلى حركة المرور، ليست من الأعمال الّتي يجوز لسائق تاكسي، مهما كانت براعته ودرجة تركيزه، أن يشغل بها نفسه وزبائنه أثناء أدائه لعمله
ولعلّني كنت سأضيف، كلّفني ذلك ما كلّفني، أنّ هذا الإفراط في الورع التّقوويّ التّبتّليّ الخشوعيّ، الّذي تفشّى في البلاد كالجرثوم الخبيث وأفقد المؤمنين من التّونسيّين الصّواب، ما كان ليكون متاحا، لسائقي سيّارات التّاكسي أو لغيرهم من غلاة الأتقياء، لو لم يصنع المشركون الغربيّون الصّليبيّون آلات الإذاعة والتّرديد العجيبة، فأثبتها الإسلاميّون المحلّيّون في مواطن شغلهم وسيّاراتهم ومآذن مساجدهم وجوامعهم، ومحلاّت البقالة والجزارة وبيع الدّجاج، وورشات الميكانيكيّين والحدّادين والنّجّارين وسائر الحرفيّين الإسلاميّين الأقحاح. وأغلب الظّنّ أنّني كنت سأجازف وألفت انتباه هذا السّائق أنّ أسلافه الصّالحون، الّذين يتشبّه بهم هيئة وبزّة وسلوكا، لم يكونوا حريصين على القرآن حرصه هو عليه اليوم لأنّهم لم يكونوا يخلطون العمل بالعبادة، حتّى لو أتيحت لهم الآلات الّتي أتيحت له اليوم، شعارهم في ذلك أنّ لكلّ مقام مقاله، وأنّ إذاعة القرآن في غير المحلّ المعدّ له ليس من آيات تبجيله وإكرامه، بل هو اعتداء صارخ على حرمته وقدسيّته
ولكنّ الرّجل الورع لم يكن له ما يكفي من رحابة الصّدر للاعتراف بحقوق زبائنه، فاكتفى بالاستفسار عن وجهتي ثمّ أصاخ بسمعه إلى المرتّل وهو يتغنّى بفنون التّعذيب السّقريّة الّتي ستصبّ على الكافرين المجرمين صبّا يوم تهوي بهم أقدامهم من الصّراط إلى الدّرك الأسفل من النّار بتهمة الامتناع عن اعتناق دين اله وعدم الاعتراف بما أراده شريعة للعالمين وأرسل نبيّه به هاديا ونذيرا. فتبادرت إلى ذهني عندئذ ذكرى المجاهد الأكبر وحزبه الدّستوريّ، وذكرى مبتزّ عرشه زين العابدين بن علي وتجمّعه الدّيمقراطيّ، وكيف أنّ الرّجلين كانا يعتبران (وإن بدرجات متفاوتة) من اعتنق من التّونسيّين « الدّستوريّ » و »التّجمّع » مؤمنين صادقي الوطنيّة، ومن كفر منهم بالحزبين معا مارقين، مجرمين، خائنين للّه والوطن. ثمّ تساءلت عن الفارق بين هذا الإله الغيّور على دينه غيرة الحبيب بورقيبة على دستوره وزين العابدين بن علي على تجمّعه، ورأس الفرقة النّاجية اليوم على « نهضته »، وسلطان العصر على « نداء » نجله، وتساءلت عن الفارق الموضوعيّ في أساليب التّرغيب والإغراء والتّنفير والتّرهيب، المعتمدة من هذه الأطراف كلّها، وعن مدى علاقتها بالإقناع والانتماء والوطنيّة والنّضال والإيمان والجهاد، وعن السّبب في تماثل سلوك الإله مع سلوك جبابرة الأرض، والحال أنّ الأوّل إله مفارق وأنّ الآخرين بشر يرون ويسمعون ويأكلون الطّعام ويمشون في الأسواق طمعا أن يقبّل الرّعاع أياديهم الطّاهرة، وعمّا إذا كان من الجائز بناء على ما تقدّم اعتبارهم كلّهم من جنس الطّغاة لما بينهم من التّطابق في الفكر وأساليب العمل؟
وكان المرتّل يردّد آنذاك عبارة « هل من مزيد »، وقد بلغ إلى آخر الآيات الّتي تتحدّث عن جهنّم وجوعها العجيب ونهمها المنقطع النّظير، لم تشبعه جحافل الكفّار المجرمين الّذين ألقي بهم في غياهبها المتلظّية، فعدت أتساءل إن كان من الجائز لأي إله أن يعذّب مخلوقاته بالنّار لمجرّد أنّهم لم يؤمنوا به، وعن الحكمة من اعتبار الكفر شرّا – بل أصل الشّرّ -، وعمّا إذا كان الإيمان يجعل من الإنسان كائنا مجبولا على الخير، وعن السّبب في اقتران الخير بالخضوع والانصياع والتّبعيّة حتّى أضحى المؤمن عبدا بالضّرورة، وصارت الحرّيّة للكافر شعارا؟
انتهيت من كلّ هذه التأمّلات إلى أنّ الإله، بالنّظر إلى أساليبه في الدّعوة إلى سبيل حقّه المبين (وهو ليس كذلك، وإلاّ لكان أبان عن الحقيقة فيه للجميع فاعتنقوها طواعية، ولكان المؤمنون كفوا آنذاك شرّ التّقاتل والتّناحر والاختلاف)، جبّار الجبابرة، لا يستنكف أن ينعت بالغلبة والقهر والتّسلّط والاستبداد والظّلم، وقد جعلها كلّها ضمن أسمائه الحسنى، وأنّه أبعد ما يكون عن المستبدّ العادل الّذي تغنّى فولتير بفضائله وجعله نقيضا للملك الشّمس لويس الرّابع عشر، وأنّ الإنصاف والعدل يقتضيان تجنّب الكيل بمكيالين فلا يدان صبيان المستبدّين من ملوك الجملكيّات ورؤسائها وحاكميها من الأمراء والخلفاء والسّلاطين ويتغاضى عن المعلّم الأوّل، وهو من برأ هذا الفنّ وبثّه في مستبدّي الأرض وديكتاتوريّيها ومهديّيها.
وعليه، ونظرا لأنّ المستبدّين من سلاطين البشر لم يفعلوا غير أن تشبّهوا بمثال المستبدّ الأعظم الّذي استوى على عرشه السّماويّ، وبعد ما تبيّن أنّ الاستبداد هو أصل الشّرّ ومنبعه، فإنّه من الضّروريّ، لمن كرّس حياته لاجتثاث أصل الاستبداد في هذا الكون، أن لا يكتفي بإدانة المستبدّين من البشر، بل إنّ عليه أن يدين الأصل ويستأصله، وإلاّ كان كذلك الرّجل الّذي أفنى الجهد والعمر في محاربة أفعى ذات رؤوس سبعة، فبدلا من أن يبحث عن مقتلها ويطعنها هناك، راح يستهدف رؤوسها فلا يقطع منها واحدا إلاّ ونبت مكانه اثنان أو ثلاثة. ألم ينبت مكان رأس بن علي ومكان رؤوس أفراد عصابته من الطّرابلسيّة ألف رأس ورأس من طرابلسيّة « التّرويكا »، وغيرها من دكاكين بقّالي السّياسة، يلهجون كلّهم بربّ السّموات والأرض، ويطيلون له الرّكوع والسّجود؟
وتساءلت أخيرا، وأنا أدفع لصاحب التّاكسي أجرته، إن لم يكن الحاكمون بأمرهم، ورثة « ثورة الياسمين »، والمستبدّون بعرشها اليوم من حملة رايات جبّار السّموات، أخطأوا في حقّ الرّبيع والياسمين عندما أدانوا بورقيبة وبن علي والغنّوشي، وتغاضوا عن جوهر الاستبداد وأصله. بماذا ترى كان سائق التّاكسي سيردّ لو ألقيت عليه سؤالا كهذا؟ وأنتم، ما ردّكم عليه؟ كم أودّ لو يتفضّل رأس الفرقة النّاجية فيقتطع من وقته الثّمين ما ينفقه عادة في إحدى خطبه الجمعيّة، ويبيّن لي – زاد اللّه في فضل سماحته، إذا اتّسعت رحابة صدره بما يكفي من التّغاضي (ولا أقول التّسامح، فهو ممّا لا يطلب أبدا من إسلاميّ مهما اتّسع اعتداله) ليتجاوز عن جريمة حشري له في زمرة الطّغاة – ولكلّ التّونسيّين والتّونسيّات، المكمّلات لهم والمؤهّلات للضّرب التّأديبيّ من قبل بعولهنّ بإجازة مؤكّدة من المستبدّ القاهر -، ببلاغته الرّائقة الواضحة، بأيّ حقّ مسخ إلههم الرّحمن الرّحيم وحشا مفترسا، ولماذا جعل منه ملاذا ونصيرا لكلّ طغاة العالم، عبر تاريخ الإنسانيّة الطّويل؟
قال لي أحد الأصدقاء، لمّا قصصت عليه ما جرى لي في سيّارة التّاكسي إنّه كان عليّ أن أطالب السّائق بإعفائي من وجبة التّرتيل الصّباحيّة، والإلحاح عليه في ذلك إلى أن يستجيب أو أغادر مسجده المتنقّل إلى سيّارة تاكسي أخرى، فأجبته أنّني لو تشبّثت بحقّي وغادرت هذه السيّارة إلى أخرى لكنت وقعت ربّما على صنو لهذا السّائق، ولكنت تأخّرت كثيرا عن الموعد، أو لعلّني كنت اضطررت إلى التّخلّف عنه لو شاء لي سوء حظّي ألاّ أقع على سائق تاكسي من غير أحبّاء إذاعة « الزّيتونة ». فأضاف صاحبي، بعد أن استمع إلى اعتراضي وقرّعني طويلا على تساهلي في أمر كرامتي واستهانتي بقيم المواطنة الأصيلة، أنّ مكمن الدّاء، فيما يرى اليوم من استحواذ المسجد على الفضاء العامّ، يكمن في فكرة وجود إله متعال، ولكنّه على صلة بالإنسان، يخاطبه بلسانه لينهي إليه أوامره ونواهيه، علما أنّ هذا الإله أكثر قسوة وشراسة في اليهوديّة والإسلام ممّا هو عليه في المسيحيّة، وإن كان صاحبي لا يثق في سلالة الآلهة جملة وتفصيلا، ويرى أنّ سعادة البشر رهن بخلاصهم نهائيّا من وهم الألوهيّة.
ولاحظ صاحبي كذلك أنّ أتباع هذا الإله الغضوب لا يتورّعون عن اتّهام أعدائه، وأعدائهم هم بالتّبعيّة، بالجهل المفرط لأنّه من البديهيّ في نظرهم ألاّ يعرف البشر ما يعرفه الإله وألاّ يزيد علم الإنسان على علم إلهه. هذا البرهان الدّامغ هو الحجر الّذي يلقمه الإسلاميّ السّوقيّ للفيلسوف الزّنديق إذا انسدّت في وجهيهما سبل التّوافق. وكيف السّبيل إلى توافق يجمع بين النّار والماء؟ بماذا يردّ الفيلسوف على من يلقمه سؤالا، لا قبل به لأحد من البشر، فيتوهّم السّائل الإسلاميّ أن توقّف الفيلسوف المنحرف المارق عن الجواب عنه ضعف وعجر يقومان دليلا كافيا على قوّة وقدرة الإله الّذي لا يراه كلاهما، ولا يراه أحد من البشر الّذين يدينون له بالولاء: « هل أنت أعلم من اللّه يا هذا؟ »
واختتم صاحبي محاضرته بقوله: « وجود مثل هذا الإله هو في حدّ ذاته إلغاء للعقل البشريّ بالكامل ». فذكّرني قوله هذا بما روي عن أحد الحكماء القدامى، وكان جاب أقطار الكون وشارك أهاليها معاشهم، أنّه قال يردّ على جيرانه وأصدقائه لمّا سألوه عن الفائدة الّتي جناها من تجواله الطّويل: « رأيت حيثما حللت مؤمنين لا عقول لهم، وعقلاء لا دين لهم ». وفي معناه يقول أبو العلاء

هَفَتِ الْحَنِيفَةُ، وَالنَّصَارَى مَا اهْتَدَوْا

وَيَهُودُ حَارَتْ، وَالْمَجُوسُ مُضَلَّلَهْ

إثْنَانِ أَهْلُ الأَرْضِ: ذُو عَقْلٍ بِلاَ

دِينٍ، وَآخَرُ دَيِّنٌ لاَ عَقْلَ لَهْ

– 336 –

لا شكّ لديّ أنّ الإسلام السّياسيّ، بفعل صيامه الطّوعيّ عن العقل، قاصر الخيال والمخيّلة. وليس أدلّ على ذلك من أنّ أتباعه، كما لاحظ ذلك د. على الوردي، « يتصوّرون الله كالملك جالسا على العرش، وحوله الملائكة، وهو يأمر بينهم وينهى. إنّهم أخذوا هذه الصّورة من حياتهم السّياسيّة، فهم ينظرون إلى الله كما ينظرون إلى حاكمهم السّياسيّ إذ يحاولون أنّ يتملّقو[ه] ويتزلّفوا إليه، أو يمدحوه ويبرطلوه » ، أي يرشونه بعبارة أخرى. بل إنّ منهم من يتصوّر الله طفلا ساذجا يمكنهم أن يخدعوه أو يستميلوه بقطعة حلوى ممثّلة في الصّلاة الفرجويّة الاستعراضيّة الكرنفاليّة في قلب شارع الحبيب بورقيبة

– 337 –

نحن محتاجون أن نعيد التّفكير في كلّ شيء، ابتداء بمفهومنا للألوهيّة وانتهاء بالقاموس المتعلّق بها، لأنّنا إن لم نفعل ذلك أضحينا جميعا قنابل موقوتة تهدّد وجودنا وعالمنا بالدّمار الشّامل. هذا هو معنى ما تصبو إليه الفرقة النّاجية ومشتقّاتها المتعدّدة، وهذا هو ما يفصح عنه بكلّ وضوح قاموس الفظاعات الّذي خرجوا به على الدّنيا من حيث لا ندري، متلفّعين في أثواب «أسلاف» لهم يزعمون أنّهم في طليعة الأمّة، يؤكّدون – دونما دليل – أنّ إلههم البربريّ (وهو غير اللّه الّذي يعبده المسلمون) لم يخرج أفضل منهم إلى النّاس. إنّه الإسلام السّياسيّ ورديفه الطّبيعيّ « الإرهاب »، فهما بطلي هذا الزّمن بدون منازع. وكيف لا يكون ربيبا للإرهاب من لم يستنكف من تجريد اللّه من سلطانه ليعلن هواه بديلا دمويّا له، يسوس باسمه النّاس بسوط الرّعب والنّقمة؟

– 338 –

ذهبت الثّورة الفرنسيّة، ومن بعدها الإصلاح الدّينيّ، بإله المسيحيّة المتوحّش، الّذي أحكم قبضته على الأرواح والأجساد والضّمائر، خلال العصر الوسيط وحتّى نهاية القرن الثّامن عشر، ولم يبق منه اليوم في مخيّلة المسيحيّين إلاّ صورة الإله الطّيّب (Le bon Dieu) الّذي يشمل كلّ المؤمنين به حبّا وتفهّما وتسامحا، لا فرق لديه بين الكاهن والمثليّ والعاهر، فكلّهم ينتمون إلى عالم الإنسان الخطّاء. والإنسان خطّاء لأنّ الله أراده أن يكون كذلك، وليس بإمكانه أن يصبح ملاكا ولو حرص على ذلك
أمّا الله فقد ظلّ كما تصوّره الإسلام القروسطيّ العتيق، بوحي من فقهاء السّلاطين ووعّاظهم، وكما أراد له أن يكون الإسلام السّياسيّ اليوم، أي مستبدّا سفّاكا ساديّا، لا همّ له إلاّ تصيّد الإنسان، الخطّاء بإرادته هو نفسه، وصبّ العذاب عليه صبّا في الدّنيا والآخرة. هذا الإله البربريّ المخيف المتوحّش هو الّذي يقدّم اليوم نموذجا للنّاشئة في رياض الأطفال والمدارس القرآنيّة، وللشّباب والكهول في المساجد الّتي حوّلها الإسلام السّياسيّ المدستر إلى شعب تابعة لفرقته النّاجيّة وفروعها الظّاهرة والخفيّة. بل إنّ ذلك لم يكفه، ولم يشبع جشعه، فيعمد أحيانا إلى إقامة الصّلاة في الطّريق العام (شارع الحبيب بورقيبة أخيرا) بدعوى أنّ الإسلاميّين « ملاّكة وليسوا كرّاية »، وعليه فلهم الحقّ، كما يزعم المهووس الهاشمي الحامدي، في احتلال الفضاء العامّ وتعطيله لأغراضهم التّعبّديّة الاستعراضيّة الرّيائيّة السّياسيّة الّتي لا تتّسع لها مساجد العاصمة على كثرتها

– 339 –

كيف يوصف بالرّحمة إله الإسلاميّين الجهاديّين (إحدى الفرق النّاجية المكمّلة للفرقة الأمّ الّتي تضطلع بشؤون الإيديولوجيا والدّعاية الاستقطاب والحشد، الّتي تنعت تقيّة « بالعلميّة ») الّذي يتوعّد عباده بالحرمان والازدراء والجوع والعطش والقطع والجلد والقتل والرّجم والحرق والمحق؟ هل يعقل أن يعتمد إله طرائق العذاب والتّقتيل الّتي ابتدعتها المجتمعات الإنسانيّة البدائيّة الوثنيّة، زاعما أنّها المثل الأعلى لعدالته السّماويّة؟ إنّ إلها يسطو على تعاليم الوثنيّين ليس جديرا بالتّفضيل. والأجدى لمن في حاجة إلى قبلة يلمّ بها متحنّثا أن يتوجّه بوجهه إلى المسروق بدلا عن السّارق، إلاّ أن يعتبر فعل معبوده اللّصوصيّ من قبيل التّناصّ (وإنّه لكذلك في عرف علم الأديان المقارنة)، على ما في هذا الإقرار من خطر على نقاء قبلته وأصالتها التّوحيديّة
وبعد، لماذا غاب الإعجاز العلميّ في هذا الموطن، وحضر في مواطن أخرى، فلم يتوعّد إله الإسلاميّين العصاة والمارقين بالقصف، أو بالإعدام بالمقصلة أو رميا بالرّصاص، أو صعقا بالكهرباء، أو خنقا بالغازات السّامّة، إو إذابة في الحوامض، أو غيرها من مستحضرات التّعذيب والقتل المعاصرة؟ عجيب أمر هذا الإله الّذي لا تتعدّى حداثته عتبات المخابر والمعامل الّتي يكدّ فيها أعداء ملّته الحنيفيّة، يفكّون فيها عن « إعجازه » الأختام، ويظلّ، فيما سوى هذا، وفيّا كلّ الوفاء لبدائيّته الأصيلة، يضرب رؤوس أعدائه بالسّيف في السّاحات العامّة، ويقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف بمدى القصّابين، ويرجمهم حتّى الموت بالأحجار المعدّة لتعبيد الطّرقات حتّى ليذهب في ظنّ الملاحظ الحصيف أنّ إزهاق الأرواح والتّمثيل بالأجساد، في عرف هذا الإله الدّمويّ، حرام – ويؤول إلى كفر صريح -، إذا استعملت فيها غير هذه الوسائل البدائيّة المقدّسة
ولا يملك الملاحظ الحصيف نفسه من التّساؤل، إزاء هذه القرائن الدّامغة، عمّا إذا لم يكن أتباع هذا الإله من إسلاميّي هذا الزّمان زاغوا عن الصّراط المستقيم عندما أباحوا لأنفسهم ركوب السّيّارات والطّائرات والبواخر والبوارج والمركبات الفضائيّة، واستبدلوا الرّماح والسّيوف والنّبال بالرّاجمات والمقنبلات يقصفون بها بعضهم البعض في نفيطيّاتهم المبعثرة في مجاهل الصّحراء؟ أليس من الكفر أن يحجّ طائرا من قضى له إلهه الجبّار أن لا يحدّ إلاّ بالسّيف في السّاحات العامّة؟

– 340 –

أنا لا أزعم أنّ أتباع الإسلام السّياسيّ كلّهم مجبولون على الشّرّ، فهم لا يستنكفون لذلك في اقتراف أشنع الموبقات في حقّ بني جلدتهم، ولكنّي أعتقد أنّ « الجماهير المؤمنة كثيرا ما تصادق على الأحكام الصّادرة على المخالفين لمفاهيم إيمانهم، ولقواعد هذا الإيمان » بدافع الانسياق، وعملا بتوصيات « أئمّتهم »، ولقناعة ساذجة لديهم أنّ « الآخر [هو] رمز للشّرّ ورمز لعداوة الله. أمّا المسلم الملتزم خصوصا، فهو رمز للخير ولمحبّة الله » . بل لقد أضحت هذه القناعة لديهم ركنا ثابتا من أركان عقيدتهم ينافحون عنه بالكلمة والنّبّوت والسّكّين والسّاطور والسّيف والقنبلة والمدمّرة والشّاحنة والسّيّارة المفخّخة وبالآدميّين المتّشحين بالأحزمة النّاسفة

– 341 –

قال لي أحد الأصدقاء يوما إنّ عبارة « السّلام عليكم » الإسلامسياسيّة لا تفيد السّلام بالضّرورة، بل لعلّها تفيد العكس تماما. فظاهر هذه العبارة الشّرعيّة المكرّسة يعني، باعتبار أنّها تحيّة « أهل الإسلام » أو « أهل الإيمان »، السّلام في علاقات المؤمنين ببعضهم البعض. والمعنى الخفيّ، إذا ما أخضعناها للتّحليل المنطقيّ، أن الإسلامسياسيّ « سلام » على أخيه القياميّ وحرب على غيره. ولو أخذنا في الاعتبار ما يجري اليوم في بعض بؤر التّوتّر المزمنة في العالم العربسلاميّ، وفي عديد البلدان العربيّة الأخرى، وخاصّة منها تلك الّتي تجني ثمار ثورات الرّبيع العربيّ الياسمينيّة، لتبيّن لنا أنّ هذا السّلام لا يشمل المسلمين كلّهم، وإنّما يقتصر في الغالب على أفراد مذهب أو فرقة أو جماعة أو حركة مّا، يعتبر المنتمون إليها أنّهم الممثّلون للإسلام الحقّ – وما أكثر الإسلامات الحقّة، وما أكثر بائعي الإسلامات الّذين يستنكفون من الإقرار بفساد إسلاماتهم – بامتياز، وأنّ غيرهم من مواطنيهم، بل من أهاليهم أحيانا، هم من رهط الضّلال والزّيغ
« السّلام عليك » تعني إذن أنّ السّلام مقصور على المتوجّه إليه، لا غير، أي أنّه سلام خاصّ وليس سلاما عامّا، وهو ما يبقي الأبواب مفتوحة على مصراعيها لكلّ إمكانيّات المواجهة والحرب الجهاديّة مع من لا يستحقّون هذه التّحيّة. من هذا المنطلق يجوز للتّونسيّ أن يذبح مواطنه يذبح التّونسيّ وينكّل به تحت شتّى الذّرائع الشّرعيّة. ويجوز له، من نفس هذا المنطلق، أن يذبح مواطني بلدان بعيدة عنه كسوريا والعراق. وكلّ هذه التّعلاّت الشّرعيّة، كما تطالعنا به تصريحات « الجهاديّين » منهم إثر كلّ غزوة من غزواتهم المظفّرة، ذات بعد دينيّ، تصبح معها دماء العلمانيّين والملحدين واللاّدينيّين والطّواغيت والصّليبيّين الصّهاينة، وأعداء الإسلام بصورة عامّة، هدرا مباحا
يذكّرني هذا التّأويل لتحيّة الإسلام بحادثة كنت عشتها أثناء إقامتي بالمملكة العربيّة السّعوديّة خلال العشريّة القبل الأخيرة من القرن الماضي، وبالتّحديد فيما بين 1985-1989. وكنت آنذاك أشتغل أستاذا للّغة الفرنسيّة بالمعهد العسكريّ للّغات بالرّياض، التّابع لوزارة الدّفاع السّعوديّة. وقد أسندت إليّ، أثناء إجازة زميلي التّونسيّ، الّذي كان يضطلع برئاسة القسم، مهمّة تعويضه. وفي يوم من الأيّام ذهبت لمقابلة الضّابط السّامي، الّذي يشغل خطّة النّاظر، للتّشاور معه في أمر يهمّ سير الدّروس، فألفيته مشغولا بمكالمة هاتفيّة، تبيّن لي بعد ذلك أنّها دارت بينه وبين مدير المعهد الفرنسيّ السّعوديّ، وهو فرنسيّ من أصل لبنانيّ يسمّى، على ما أذكر، فيكتور أو جورج. وسمعت الرّائد النّاظر يقول لمحدّثه إنّه أخطأ عندما ابتدره بتحيّة الإسلام، وكان الأجدر أن يكتفي بمرحبا أو أهلا، أو ما شابههما
لا أدري ماذا كان تعليق اللّبنانيّ المسيحيّ على هذا التّحفّظ، ولكنّي أذكر أنّ مدرّس القرآن السّعوديّ حضر إلى مكتب النّاظر، وقد فرغ النّاظر من مكالمته، فقصّ عليه هذا الأخير « الكبيرة » الّتي تردّى فيها عن غير قصد منه، فما كان من الشّيخ الوهّابيّ الجليل إلاّ أن قال له مطمئنا : لا بأس، اعتبر هذه الزّلّة دعوة في سبيل اللّه

فرج الحوار

يتبع