الطَّرَابلسيّة الجدد

لو كان لي ولغيري من مواطنيّ إمكانيّة الاختيار (فقد اغتصبنا حقّنا في الاختيار سابقا، وحرمنا منه اليوم، وإن لم يكن لنفس الأسباب)، لكنت اخترت أنا شخصيّا، على أغلال الولاية، ما سما منها وما أسفّ، غلّ العقل، باعتباره جزءا من كياني وذاتي، لا أرضى لي بقيد سواه. إنّ خياري هذا، وإن بدا في ظاهره تسليما لجبروت العقل بطريقة تضعه مقام الإله في المنظور الأصوليّ، يصدر عن قناعة لديّ بأنّ العقل، على علاّته، هو سبيلنا الوحيد اليوم إلى تغليب داعي الأرض على داعي السّماء، أي داعي الحياة على داعي الموت الّذي جاءت به الفرقة النّاجية من منافيها الشّرقيّة والغربيّة
وقد كان الزّعيم بورقيبة عوّل على الأرض (والأرض أقرب إلى العقل من السّماء، إن لم تكن هي كلّ العقل)، ولكنّه لم يدرك للأسف أنّ الأرض لا تصبح جنّة بمجرّد الحرث، وأنّ السّعادة ليست في كسرة الخبز لكلّ فم. ولم يكن ثمّة خبز للجميع، ولم يكن مجال السّعادة متاحا للجميع، ولكن كان ثمّة أمل، استمرّ كمثل عمر الوردة ثمّ ذبل وصوّح وقد تعاورته سيوف الإكراه (والإكراه صنو الشّريعة الغاشمة ليس لأحد منها فصام) فأحالته عدما. كان بورقيبة يظنّ أنّه الأب الحنون الّذي يجوز له، بدافع من حبّه الغمر لفلذات كبده، أن يصنع بأبنائه ما يريد، لا يسأل فيما كافأ وعاقب وزكّى ونفى
وهكذا انقلبت الضّيعة الوطنيّة صحراء همنا فيها على وجوهنا، ولم نزل بعد هناك نبحث لنا فيها عن درب النّجاة. صحراء « النّظرة الأحاديّة، وعبادة الأصول، والتّمترس وراء النّصوص » والشّعارات « للانقلاب على القضايا، والتّعلّق بالأشياء حتّى أضدادها »، وهي المتاهة نفسها الّتي زجّت بنا فيها « ثورة الياسمين »، بزعامة آلهة الوقت من الفرقنجويّين ومواليهم وأعوانهم من أصوليّي العلمانيّة وغلاة الحقوقيّين الّذين لا يتورّعون، دفاعا عن شرعيّتهم الاستبداديّة، في نصب المشانق في كلّ السّاحات العامّة
أمّا رأس الفرقة النّاجية فيؤكّدأنّ الأرض هي منفى البشر، ولعنة مرسلة، وأنّ العافية هي في الاستعاضة عنها بجنّة السّماء. ودعانا أن نصوم عن مغريات الأرض، جعلها لنفسه وفرقته النّاجية إرثا، وأكرمنا، نحن التّونسيّين، بالجوع والعطش والحرمان والقهر نتبلّغ بها بانتظار أن ينقلنا الموت إلى الجنّة الّتي يزعم أنّ ربيعه قد أنجبها الرّبيع، يقول عنه إنّه عربيّا، والحال أنّه ينطق برطانات شتّى لا أثر فيها لإيقاعات أبي نواس وعلي الدّوعاجي وأبي تمّام والبشير خريّف وأبي الطّيّب المتنبّي والشّيخ النّفزاوي ومحمود المسعدي.
كانت لبورقيبة شرعيّة الأرض والتّاريخ، هما اللّتين توّجتاه زعيما. واختار رأس الفرقة النّاجية، الطّامع في خلافته اليوم، أن يستمدّ شرعيّته من السّماء، ولكنّه نسي أنّ شرعيّة السّماء حكر على الأنبياء، وقد انقضى دور النّبوّة منذ رحل خاتم الأنبياء عن الأرض. رأس الفرقة النّاجية هو المغتصب إذن، نال أذاه السّماء والأرض معا. لذلك انبعث بورقيبة من فنائه وانتصب في وجه عدوّ الأبد: ميّتا يصاول حيّا، يناجزه مرّة، ويرتدّ عنه أخرى، ولكنّه لا يدبر عنه منهزما
ما من شكّ في أنّ انحيازي لداعي الأرض (وبالتّالي لداعي العقل في بورقيبة الذّي كان للأرض ابنا بارّا وعاشقا متيّما)، قد يبدو مناقضا، في منطلقاته على الأقلّ، لما تقدّم عن ضروة التّحلّل من منطق الولاء والبراء وعقليّة الفسطاطين الّتي آلت بالبلاد إلى الأزمة الخانقة الّتي تتخبّط فيها اليوم. والسّبب في انحيازي هذا يكمن في قناعتي بأنّ البربريّة الّتي انطلقت من قماقمها اليوم، في شتّى بقاع الأرض، إنّما صنعها : أصحاب الدّعوات والمشاريع، بشعاراتهم الدّينيّة القديمة، أو بعناوينهم الإيديولوجيّة الحديثة، ولم [تـ]ـكن صنيعة المعطّلة والزّنادقة (وفي زمرتهم زجّ ببورقيبة)، ولا من انتهاك المارقين والخارجين
إنّ العنف والدّمار والبربريّة هي نتاج خالص : لــلإنسان العقائديّ اللاّهوتي والنّاسوتي، أو العلمانيّ والحداثيّ (ومن ضمنهم بورقيبة)، وكلّ من يستعدي الآخر، أو يحاربه لأجل رأيه أو معتقده (وكان بورقيبة يفعل ذلك)، أكثر ممّا كان من جانب النّماذج الّتي يجسّدها الإنسان الدّهريّ، أو الدّنيويّ، أو الأرضيّ، وخاصّة نموذج الإنسان الرّيبيّ أو المرجئيّ، الّذي يخشى البتّ والقطع في معاني الأشياء وقيمها، بقدر ما يعتبر أقواله مجرّد وجهة نظر، أو تأويل، أو قراءة في الوقائع والتّجارب والأحداث أو النّصوص. وهذا شأن كلّ من يتّصف بالتّقوى، على المستوى الوجوديّ، فلا يمارس احتكار المشروعيّة، ولا يدّعي امتلاك الحقيقة، ولا يسعى إلى بناء أنظمة استبداديّة أو شموليّة لإقامة ما هو محال على الأرض من فراديس يحلم بها مجانين الله وعشّاق الحرّيّة، والمهووسون بالنّماذج الكاملة والحلول القصوى أو النّهائيّة
تلك هي معركة السّاعة، معركة تونس في محاولاتها المستمرّة للعثور على بوصلتها الّتي انتزعها منها هذا الّذي يدعى « الرّبيع العربيّ » الإسلامسياسيّ. ولم يكن ربيعا. ولم يكن عربيّا. ولم يكن إسلاميّا أيضا كما يزعم حامل رايته، وهو ليس « ديمقراطيّا مدنيّا » كما يروّج لذلك السّذّج من رافعي راية العدالة الاجتماعيّة، بل إسلامسياسيّا كان قلبا وقالبا. لا أكثر ولا أقلّ. لذلك خرج بورقيبة من جدثه ليقوم في مواجهة الأصوليّة الإسلامسياسيّة الصّاعدة، استكمالا لمعركة أنف بورقيبة من خوضها في إبّانها وفضّل أن يلغيها، بالسّجن والمنفى، من واجهة الأحداث في عهده
إنّ عودة بورقيبة، بصفته فاعل أساسيّ من فواعل هذه المواجهة التّاريخيّة المصيريّة، ردّ فعل طبيعيّ جدّا من هؤلاء الذّين عصف بسلطانهم ومجدهم التّيّار الأصوليّ الإسلامسياسيّ الزّاحف، وهو يدلّ، بما لا يدع مجالا للشّكّ، أنّ رهان المعركة، الدّائرة اليوم في البلاد، ليس الحرّيّة والكرامة والعمل، الّتي كانت شعارات ثورة 14 جانفي 2011، بل إنّ الرّهان هو الاستبداد الذّي يتبارى العقائديّون المتنافسون في السّاحة لإقامة صرحه على أسس دينيّة بحتة، وإن زعم أصحابها، من الأصوليّين والعلمانيّين على حدّ السّواء، أنّها مدنيّة حداثيّة دستوريّة تعدّديّة توافقيّة… إلخ… إلخ
والحقيقة الّتي لا مراء فيها أنّ الشّعار، بغضّ النّظر عن مصدره ومرماه، لا يصنع كرامة وحرّيّة، بل لعلّه يؤسّس لعكس ذلك تماما، كما تشهد بذلك الانحرافات الّتي تردّت فيها ثورة الشّباب في تونس فأوقعتها في براثن القياميّين الأصوليّين واللّيبراليّين والحقوقيّين ومن لفّ لفّهم من المرتزقة، ومن التحق بهم من حشود المتمسّحين والنّاعقين. والمتمعّن في مجرى الأحداث، منذ 14 جانفي 2011 إلى اليوم، لا يمكن إلاّ أن يصادق على ما ذهب إليه الفيلسوف اللّبنانيّ علي حرب عندما أكّد أنّ « المجتمعات المعاصرة لا تعاني اليوم من نقص في القيم المتعالية والمبادئ الرّوحانيّة؛ لا تعاني من غياب الله وبقيّة المقدّسات الّتي تتعلّق بالهويّة والتّراث والأرض والوطن، والّتي تكاد تحوّل الحياة إلى أفخاخ وكمائن. بالعكس: « لقد أتخمت البشريّة تأليها وتقديسا وتنزيها واصطفاء، وسوى ذلك من العملات العقائديّة الّتي هي مصدر مصائبنا وكوارثنا ». والدّليل على ذلك أنّ تونس تحوّلت اليوم إلى بورصة يتبارى فيها المستثمرون باسم الله والوطن والمدنيّة والتّعدّديّة وحقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة، وغيرها من المستحدثات « الثّوريّة » الّتي تفتّقت عنها قريحة المتنفّذين في سعيهم المحموم لمكافأة أشياعهم وأعوانهم من : الطّرابلسيّة الجدد

فرج الحوار