المسرح البلدي معلم تاريخي من أهم معالم المدينة أنشئ في بدايات القرن العشرين وفي رحابه لمعت أسماء فنانين وأدباء وأقيمت الحفلات لأعلام الأمة تكريما وتأبينا كما استقبل أشهر الفرق المسرحية والفنية ونظمت في رحابه العديد من اللقاءات السياسية والأدبية والفكرية، هذا الدور الإبداعي التنويري الذي لعبه المسرح البلدي طوال ما يفوق القرن اتسع في أحداث 14 جانفي 2011 إلى مجالات أخرى لتصبح درجاته الموصلة إلى مدخله ولأوّل مرّة منصّة للتعبير عن موقف سياسي حيث شهد تجمع عدد من الفنانين الذين وقفوا هناك لمساندة المظاهرات التي عمّت البلاد، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت واجهة المسرح البلدي المنصة التي يعبر على درجاتها عن المواقف السياسية والاجتماعية لفئات مختلفة وأصبحت الملجأ لكلّ من يريد أن يبلّغ موقفا ولو كان بصورة فردية بحيث أصبحت درجاته شبيهة بدرجات نقابة الصحفيين في مصر المسماة قلعة الاحتجاجات، في الأيام الفارطة وبعد ما يقارب الخمسين يوما من الإعلان على قرارات 25 جويلية وإثر عجز حركة النهضة عن تجييش الشارع وعودة قياداتها خائبة من وقفتها أمام أبواب مجلس النواب في محاولة منها للدخول وبعد أن فشلت لوبياتها لتأليب الرأي العام الدولي دعت إلى وقفة احتجاجية يوم السبت الفارط للتنديد بتجميد البرلمان ونوابه وما تلى ذلك من إجراءات، ولي على ما حصل جملة من الملحوظات
1) لم تتم الدعوة إلى هذه الوقفة علنا من طرف الخاسر الأكبر من قرارات 25 جويلية أي حركة النهضة بل تمت من خلال أعوانها المنتشرين في مختلف الفضاءات إذ فضلت التخفي فلم تظهر أعلامها ولا لافتاتها بل اكتفت بإرسال البعض من منتسبيها من الصف الثاني غير أنها في نفس الوقت عملت على التحشيد والحث على الحضور باستعمالها نفس الوسائل التي تعودت عليها سابقا
2) الظاهر أن هذه الوقفة حصلت على ترخيص قانوني يدلّ على ذلك وقوف الأمن على الحياد خصوصا لما ارتفعت شعارات المواطنين المساندين لقرارات 25 جويلية الذي تجمعوا بشكل عفوي وهو أمر محيّر ذلك أن الحزب الدستوري حاول المرات المتعدّدة تنظيم وقفات ورغم حصوله على التراخيص القانونية إلا أنه يتم منع نشاطاته بتعلات واهية كتلك التي ذكرتها والية سوسة أو يتم منع مناصريه من الالتحاق خصوصا ببؤرة القرضاوي وهو ما يوحي بأن هنالك قرارا سياسيا بحماية هذه البؤرة، والذي نرجوه أن تتم معاملة الجميع على قدم المساواة وأن لا تكال نفس المسائل بمكيالين مختلفين
3) لم نلاحظ مشاركة للأحزاب التي أصدرت بيانات ضد قرارات 25 جويلية فلا أعلامها حاضرة ولا لافتاتها كذلك إذا استثنينا بعض الوجوه ويبدو أن الحاضرين وأغلبهم من حزب الحركة التزموا بتعليمات تنصّ على أن لا يظهر سوى علم تونس وأن لا ترفع شعارات حزبية بل يُكتفى بشتم رئيس الدولة والمطالبة بالعودة إلى ما قبل 24 جويلية
4) رغم أن هذه الوقفة أعدّ لها مسبقا إلا أن عدد الحضور كان محدودا للغاية لم يتجاوز بعض المئات ولم يستطع منظموها أن يحشدوا لها حتى المارة بل بالعكس من ذلك تجمع مواطنون عن طريق الصدفة ووقفوا في الجهة المقابلة رافعين شعارات ضد حركة النهضة وزعيمها وهو ما لم تتفطن له الجزيرة إذ بثت الشعارات معتقدة أنها لصالح دعاة عودة البرلمان المجمّد
5) رُفعت شعارات كثيرة منها ما هو قديم تعوّدنا سماعه منذ سنة 2011 من نوع ديقاج وكرامة وطنية وحتى مقطوعة « محلى القعدة على المية » لم تغب وهنالك شعارات جديدة صيغت بالمناسبة في منتهى البذاءة تناولت شخص الرئيس وبعض معاونيه لا يمكن إيرادها في هذا الفضاء بحيث اقتصرت الشعارات على ترديد البذاءات بدل أن تكون ذات مضمون سياسي ورسالة واضحة
6) الشعارات التي رفعت من طرف الذين مرّوا بالصدفة وواجهوا دعاة الوقفة تؤكد أن المواطن التونسي بعد 10 سنوات من حكم النهضة أصبح متيقنا أن السبب فيما آلت إلى أوضاع البلاد من انهيار وهوان يعود بالأساس إلى حركة النهضة وزعيمها الذين خصّهم الحضور بالاتهام صراحة بالاغتيال وبالإرهاب وهو ما يؤشر على أن التونسي خرج من أسر الفصول الدستورية وتناطحها فالمسالة سياسية وحلّها لن يكون إلا سياسيا
7) من خلال حديثي مع بعض الذين شاركوا بعفوية في الوقفة من الجهة المقابلة تبيّن لي أن مساندتهم لقرارات 25 جويلية ليست مساندة عفوية أو ابنة اللحظة بل هي مساندة مبنية على رؤية وفهم لمعطيات الواقع كما أنها مساندة مشروطة وغير مطلقة وما يدلّ على ذلك أن جلهم حرص على دعوة الرئيس إلى الإسراع باتخاذ الإجراءات العملية لتنزيل قرارات 25 جويلية في الواقع السياسي والوصول بها إلى القضاء على الفساد بكلّ أشكاله لأن كل تأخير يضعف من حماسة أنصار القضاء على المنظومة القديمة ويبعث فيهم الشكوك حول صدقيّة ما جرى خصوصا لما نضع في الاعتبار حملات التشكيك التي تخترق كافة وسائل الاتصال لذا تجدهم يحرصون على تذكير الرئيس بضرورة الانتهاء من هذه المرحلة والانتقال إلى مرحلة البناء كتأليف الحكومة وصياغة النصوص المنظمة للمرحلة القادمة وإحالة ملفات الفساد والمفسدين إلى القضاء
اقتصرت الوقفة الاحتجاجية على الدرجات العشر للمسرح البلدي في العاصمة ولم تتمكن من الانتقال إلى غيرها في المدن الأخرى وهو ما يعكس الهوان والعجز الذي أصبحت عليه حركة النهضة أمام المدّ الجماهير المناوئ لها الذي خرج بعد الإعلان عن قرارات 25 جويلية في كامل أنحاء الجمهورية معبرا عن فرحه واحتفاله بالبدء في القضاء على الفساد وأسّه
وقفة احتجاجية فاشلة بكل المقاييس أثبتت أن حركة النهضة انتهت تماما في الشارع التونسي ولم تعد صاحبة تأثير فيه وأن كل ما نشاهده من تلميع لصورتها ولمواقفها إنما هو مندرج في باب الفساد الإعلامي غير أن ما يجب أن نضعه في الاعتبار أن نهاية حركة النهضة لا تعني خروجها من السلطة فقط بل تعني أساسا إغلاق كل البؤر والجمعيات والمدارس التي ظهرت كالفطر في فترة حكمها للقيام بمهمتين أساسيتين تمويلها وتجنيد الشباب لصالحها
بقلم أنس الشابي