خصص التلفزيون العربي حلقتين من برنامج (وفي رواية أخرى) لأحمد نجيب الشابي، لاستعراض تجاربه في مختلف مراحل حياته السياسية، لكن المتفرج سيتفطن بسهولة منذ الدقائق الأولى إلى أن التركيز على بورقيبة في هذه المقابلة مثير للانتباه، فلم يفوت الرجلان الجالسان قبالة بعضهما البعض في أطول حوار (إذاعي متلفز) طعنة لم يسدداها للزعيم، بدءا من قصة اغتيال بن يوسف، إلى إعدام المعارضين، واغتيال بعضهم في الشوارع، وتشبيه حرب بنزرت بالحرب على غزة، والتواطؤ مع الاستعمار ضد المقاومين، والتشكيك حتى في محاولة اغتيال الزعيم الشهيرة والتساؤل: ألم تكن مفبركة؟ إلى غير ذلك من التهم الجاهزة والمألوفة التي جُمّعت هذه المرة في سياق واحد
ليس ضروريا أن تكون منتميا إلى العائلة الدستورية، أو ولوعا بالحبيب بورقيبة، ومتيما بزمنه وأفكاره كي تشعر بالفزع من قتامة الصورة التي أراد البرنامج الوصول إليها، بل يكفي أن تكون مواطنا تونسيا يتحلى بقليل من الصدق مع ذاته. قليل من الصدق في زمن العمى الإيديولوجي يكفي للاشمئزاز من نبش قبر بورقيبة بهذه الطريقة الباردة، فالدول العربية لم يحكمها حتى الساعة أنصاف آلهة أو أنبياء، والمقاربات التاريخية الموضوعية هي التي تنتهي دائما إلى إنصاف الزعماء عندما تضع ما قدموه لفائدة أوطانهم مقابل ما ارتكبوه من أخطاء
ثم إن بورقيبة بالذات وخلافا لأي زعيم عربي آخر موصوم في المشرق، فنحن هنا في تونس لا ننكر أخطاءه السياسية وأهمها القضاء على التعددية وخنق المجال الديمقراطي والرئاسة مدى الحياة، لكننا في الوقت نفسه نعتبر مجلة الأحوال الشخصية وتحديد النسل والتعليم المجاني إنجازات تحمل إمضاءه الشخصي، ورؤيته الخاصة والتقدمية لما ينبغي أن تكون عليه الدولة والمجتمع، ويكفي أن نعيد مشاهدة موكبه مع الرئيس الأمريكي كيندي حتى نشعر بقليل من الفخر وكثير من الحسرة. لكن إخوتنا في المشرق والخليج سيقولون لك إذا ما ذكر أمامهم بورقيبة: لقد أجاز الإفطار في رمضان وحرّم الزواج بثانية
هل كان من الضروري أن ينساق أحمد نجيب الشابي وراء مضيفه في هذه المحاكمة غير العادلة لبورقيبة وزمنه؟ محاكمة تواصل ما بدأه أحمد منصور في شاهد على العصر حيث كان كل همه في مختلف الحوارات التي أجراها مع سياسيين تونسيين مواصلة تشويه بورقيبة والاعتداء على صورته وهو جالس على كرسي الأبدية؟ ألم يكن من الضروري أن يتوخى الشابي سبيل التحفظ للإفلات من هذا المأزق لا سيما وهو يفضفض في قناة أجنبية؟
ليس من السهل على أي قناة أن تنجز اليوم برنامجا عن نهضة العراق العلمية في عهد صدام حسين، أو كيف أنشأ القذافي النهر الصناعي العظيم، بقدر ما هو سهل ومتاح نصب المناحات وإقامة حفلات الشواء، والمؤسف في هذا أن البرنامج ضعيف للغاية، فلم تعرض فيه إلا صور قليلة ثابتة مع صورة الضيفين جالسين في مناجاة تلفزيونية مطولة. والحال أن التلفزة لا تحتمل الثرثرة، وتحتاج إلى تغذية مستمرة بالعناصر البصرية وهي تخاطب جمهورا بذاكرة السمكة الحمراء التي لا تستطيع الصمود أمام مشهد واحد أكثر من ثماني ثوان، هذا ما يعرفه أصغر صانع محتوى على التيكتوك ويجهله صناع برنامج (وفي رواية أخرى)
بقلم عامر بوعزة