يعرف القارئ الكريم أن المسلمين بدؤوا الصّراع على الحكم في سقيفة بني ساعدة، فحين توفي الرسول الكريم اجتمع أهل بيته في دار فاطمة وعندها عليا وأهل الرسول. وأما عمر بن الخطاب فقد توجه لسقيفة بني ساعدة في نفر من المهاجرين فلقي فيها سعد بن عبادة فاحتدم النقاش حول الحكم ومن هو خليفة رسول الله، وتمت البيعة لأبي بكر، غير أنّ بعض الذين طلبوا الحكم وكانوا إما حاضرين أو غائبين واعتقدوا أنهم أولى بخلافة النبي لقرابة دموية أو صحبة أو جاه أو نسب أو دين لم يرضوا بنتائج البيعة وانفجرت تلك الصراعات في شكل اغتيالات وفتن وذهب ضحيتها من صحابة النبي وآل بيته ما تعلمونَ أيها السادة من مقتل عثمان جامع القرآن إلى مقتل علي الذي كان بمثابة ابن للنبي إلى معارك حامية الوطيس كان مدارها السلطة لا غير وكادت تهلك الإسلام والمسلمين وبقوا إلى يومنا هذا يتقاتلون هذا يقاتل باسم عليّ وأحقيته في الحكم وذاك يقاتل باسم محاربة البدع والأهواء وذاك يقاتل تحت مسمىّ الجهاد وإعلاء راية الحق وليس الحق مع أي واحد فيهم فكل فريق تحركه الأهواء والرغبة في السؤدد والملك والمكانة والمصالح. وأعجب من العجب أن ترى في تونس في يوم 14 نوفمبر 2021 الناس أفواجا ترفع رغم معاناتها الاجتماعية شعارات سياسوية جوفاء مطالبين بالعودة للدستور كما كان آباؤهم يطالبون بالعودة إلى تحكيم الكتاب الكريم ولكنّ لا ذاك الشعار ولا هذا يعبران عن الواقع، فتحت مسمى تحكيم الكتاب الكريم ارتكبت مجازر دامية وتحت مسمى العودة للدستور يتم توظيف الناس توظيفا ضد مصالحهم الخاصة ومستقبلهم الحقيقي النافع. ولسنا بأية حال ضدّ إعلاء الدساتير ولا تلك قضية ندافع عنها فمن المؤكد أننا مع تطبيق وإعلاء القوانين ولكن نريد كشف الهوة السحيقة بين المعلن من الشعار والمخفي من الرهانات الكامنة وراء توظيفه وإحداث الفوضى الدائمة
يا سادتي منذ 2011 ونحن نغلي سياسيا دون الوصول إلى إرساء نظام عادل ودون أن يتحرر الإنسان في جوهر شروطه الإنسانية فهذه المطالب العالية باسم الدستور والديمقراطية لا تحمل مضامين حقيقية، كيف ذلك وهذا المجتمع الذي يحركه التجييش والنفير كما كان يحرك التجييش والنفير القبائل في القرون الماضية فتدمي بعضها بعضا لأجل أن يقال هؤلاء القوم أبطال وشجعان ويفتخر الشعراء بامجاد قبائلهم العظيمة التي لا تبقى من عدوها ولا تذر. هذه الأصوات التي لا تعبر عن حقيقة حاجاتها: لا تعبر لا عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي فيها الأسر التونسية، لا تعبر عن تراجع المقدرة الشرائية للتونسيين لا تعبر عن فقدان الأمن والشعور بالخطر الدائم في المحيط بسبب الجرائم وبسبب التلوث وبسبب غياب الدولة حيث يجب أن تكون ممثلة لقصور الموارد وتراجع الامكانيات وعقلية التواكل والتخلي عن الواجب وغير ذلك من الأسباب. هؤلاء لا يعبرون عن مشاكل أبنائهم وتراجع الأمل في العمل وفي الفرص وفي نوعية التكوين ونوعية الحياة التي تنتظرهم، لا يعبرون عن ما يواجهه المرضى وما يواجهه المسنون والمتقاعدون وترذيل كل الخدمات وتصعيب حياتنا اليومية . هؤلاء يصرخون بشعارات الديمقراطية ولو كانت تلك الصرخات نابعة ممن يؤمنون حقا بتلك الديمقراطية لكان ذلك مقنعا ولكن بعض هؤلاء كانوا ممن ساهم ورحب بما سيمسيه « انقلابا » فلما لم يجد مقعدا في الحكومة صار نفس الفعل يحمل اسما ضدا فبعد أن كان يسمى إنقاذا صار انقلابا وبعد أن كان شرعيا صار غير شرعي، وأما تلك الأصوات الصارخة بشعارات لا تعبر عن همومها ومشاكلها الحقيقية والطالبة بتغيير سياسي لن يوفر لهم الأجوبة لحياتهم الاجتماعية ولا يغنيهم ولا يسمنهم من جوع ولا هم من طلاب الديمقراطية الحقيقية أصلا فها هم من انتمائهم الايديولوجي المعروف للجميع يقفون في صف الثقافة المحافظة الدينية المتشبثة بالبنى التقليدية التي ترفع شعارات الديمقراطية فقط لتفتك الحكم وتطبق على الجميع رؤاها السياسية التي لا تناسب العصر إن تلك الأصوات لهي وجه من وجوه مأساة المسلم المعاصر الحزين
لقد وقعنا في براثن قوى من نفس الطينة: تظهر شيئا وتبطن شيئا وتدعي الدفاع عن القيم الحديثة وهي تضمر الغدر بها وتريد فقط الحصول على سلطة الحكم لتحقق مشروعها الإحيائي الذي تتوهم أنه سياتي بجنة وما هو آت إلا بخراب عميم، ذلك أن الخطاب المرفوع في واد والواقع الموجود في واد آخر وهؤلاء الفاعلين في الظاهر ماهم بفاعلين وماهم بقوى للتقدم التاريخي ولكنهم مغتربون في مصالح غيرهم ومغيبون عن مصالحهم الخاصة فهم كروبوات تعمل لفائدة الغير يتحكمون بهم كما يتحكم الإنسان بالآلة يسيرونهم لأنهم لا يُعلون العقل الذاتي على ما يحشون به أدمغتهم من لغو ليتدبروا مصالحهم الشخصية في رفع شعارات جوفاء لن تطعمهم من جوع ولا تكسيهم من برد
لم نغادر السقيفة فها نحن نترك العمل الشاق الذي علينا القيام به لنصنع حلولا لواقعنا المتأزم ونضيّع وقتنا في خدمة مصالح « اللاعبين من وراء ستار » الذين يزدادون بتوظيفنا في غير مصالحنا الخاصّة ثراء وقوة فيما نزداد فقرا وجهلا وضعفا
زينب التوجاني