ما أكثر المتسولين في شوارعنا المزدحمة هذه الأيام، نهارا وليلا، تراهم على كل لون وهيئة، نساء ورجالا وشبانا في

زينب التوجاني
مقتبل العمر، يستخدمون الأطفال ويختلقون العاهات أو يعرضون شهادات المرض أو يقفون أمام مخابر التحليل يخبرون المارّة أنّهم بحاجة إلى المال لتسديد ثمن خدمة طبية عاجلة. وما أشبه حال البلاد بهؤلاء، فحتى الدولة بطم طميمها تجوب في العالم كامرأة حزينة تحمل على أكتافها رضيعا يبكي، وتمد يديها تطلب القوت لها وله. ها قد دفع الإفلاس بنا إلى ثقافة التسول والخنوع بعد أن خرّب المفسدون ما خربوا وعطل المضربون ما عطلوا وسرق السارقون ماسرقوا وهرب الكناطرية ما هربوا وبيضوا بشراء العقارات في كل مكان ما بيضوا وعطلوا العدالة ما عطلوا وبعد أن فعل بنا الكوفيد ما فعلَ وفقر ما فقرّ وسُرّح من أعمالهم ما سُرّح من عمال ودُفع إلى البطالة ما دُفع من الناس وبعد أن أجهزت الحرب الروسية الأوكرانية على كل نفس باق يتنفس به التونسيون فحرمت أولئك البسطاء حتى من الأعمال اليدوية التي كانت تدر عليهم بعض الربح كالملسوقة، وصناعة العجائن الدياري الحلالم والنواصر والخبز الطابونة وصار الحصول على مواد كالسكر والفارينة ذراعك يا علاف. وها قد زادت الحكومة في أسعار المحروقات وهدد أصحاب التاكسيات بالإضراب وصار التونسي يعيش كل يوم ويومه لا يدري ما يخفيه الغد من وجوه هذه الأزمات المتراكمة
وها هم شباب من نساء ورجال يفرون في قوارب الموت فتقبل الدولة ترحيلهم مقابل السكوت الأوروبي عن الوضع الهش للديمقراطية فيها، ومقابل فتات الإعانات والمساعدات. وها قد تحول بعض العائدين اليائسين إلى قنابل موقوتة على مجتمعهم وأنفسهم. فبعد خوض مغامرة الموت في البحر والنجاة يجدون أنفسهم في الحي الذي فروا منه ثانية بلا عمل ولا أمل ولا فرصة للعمل ولا للأمل وأمام مظاهر مفارقة للحياة التونسية المتداخل فيها الفرح بالحزن بالجنون اليومي. وها أن حياتنا تزداد تعقدا وصعوبة أمام اجتماع هشاشتنا الفكرية والثقافية بأزمتنا الاقتصادية وتطلع الشباب الجديد إلى الحياة الكريمة التي يرونها بعيدة المنال
ولو كان التونسيون يريدون الخروج من هذا الوضع الخطير المؤذن بالخراب لفعلوا ما بوسعهم ليجتمعوا معا لإيجاد خطط عاجلة لإنقاذ المجتمع والدولة من الانهيار الصامت الذي هم فيه، لكنهم لا يزالون بين معارضة تائهة في هواماتها العليلة وحكومة عاجزة وخطاب سياسي ذي اتجاه واحد ليس غايته حقا الحوار كما يزعم بل السلطة. وأفراد الشعب بين متسول وحارق وكادح صبور وحالم وسارق يستثري بجنون وجائع شريد. وفي هذه الظروف العجيبة حيث تجتمع عوامل الانفجار جميعا نرى الصبح بعيدا لسببين: السبب الأول رغبة الخلاص الفردي والآخر إلى الجحيم والسبب الثاني غياب آليات الخلاص والاعتماد على الآخرين. فهل يمكن والعالم صار خطرا وميالا إلى الحرب أكثر من العقود السابقة أن نضمن مصالحنا بخنوعنا والضغط فقط على الموظفين الذين يدفعون بعرق جبينهم ثمن أخطاء المسيرين المتعاقبين على الدولة منذ عقدين وأكثر ؟
بين المتسولين وقطاع الطرق يدفع الكادحون والعاملون بالفكر والساعد وبعرق الجبين ثمن سكوتهم أو اختياراتهم السياسية وأوهامهم وتفرقهم بين الملل والنحل الايديولوجية وتدافعهم فيما بينهم ومعاركهم الوهمية، فهذا حلال وهذا حرام وهذا يجوز وهذا لا يجوز وهذا إسلام وهذا كفر وهذا يريد تحرير فلسطين وذاك مع أوكرانيا وتلك مع روسيا والآخر ضد كذا والأخرى مع كذا..وهكذا دواليك… والفاتورة يدفعها الذين تركوا مصالحهم والتهوا عنها بقضايا لا تغنيهم ولا تعنيهم. فها هم اليوم وأمام مظاهر الأزمة المعقدة يدفعون ثمن أخطائهم رغم ما يبذلونه من جهد، وليتسوّل المتسولون ويقطع عليهم المجرمون الطرق ولترتفع الأسعار بجنون، ويخنق أبناءهم العجز والإفلاس والجريمة، لا باس …فليغرقوا في البريك والكسكسي باللحم والعادات والطقوس وليتخمروا بما شاؤوا …لاباس..فمازالوا يتنفسون … ولله يا محسنين
بقلم زينب التوجاني