جتهدنا في مرات سابقة في محاولة فهم وتفسير وربما تبرير نتائج عمليات استطلاع الرأي ببلادنا وعدنا إلى كتاب استاذنا الكبير الراحل منصف ونّاس «الشخصية التونسية» وكذلك بعض المقتطفات من مقدمة مؤسّس علم الاجتماع عبد الرحمان بن خلدون للوقوف على خصائص الإنسان التونسي وطريقة تعاطيه «المتقلب» وإجابته «الطريفة» اليوم مثلا عن أسئلة تتصل برأيه بخصوص الشأن العام، وذلك تشجيعا لهذه «التقليعة» الديمقراطية التي ازدهرت بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، وصار صدور نتائج سبر الآراء دوريا تؤمّنه شركات «محترفة» ومختصة في المجال
والحقيقة أيضا أن النتائج العديدة الصادرة عن الشركات المختلفة – المتنافسة – تكاد تكون متقاربة كي لا نقول متطابقة في نسخ وإعادة تجسيد ورسم المزاج العام إن جاز القول، أي أنها توثّق بحرفية وتقنية عالية الانطباعات العفوية الصادرة عن المستجوبين بالهاتف في أغلب الأحيان في لحظة لا يعلم إلا الله إن كانت مناسبة ليدلي المرء بدلوه في مسائل مصيرية تهم البلاد والعباد
كما أن وقائع سابقة أهمّها الاستحقاقات الانتخابية بيّنت تقارب نتائج شركات سبر الآراء مع نتائج الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الأمر الذي غذّى «رأسمال» هذه الشركات و«أصولها التجارية» ووهبها «مصداقية» تحفّزها على الاستمرار في العمل في غياب الإطار التشريعي المتكامل بطبيعة الحال وفي ظل أزمة الثقافة الديمقراطية
ولم يعد غريبا منذ فترة أن تشير استطلاعات الرأي مثلا كل شهر إلى بقاء رئيس الجمهورية قيس سعيد الأول في نوايا التصويت للرئاسية والحزب الدستوري الحرّ الأول في التشريعية مع بقاء «منافسي» الرئيس في مرتبة جدّ متأخّرة على غرار عبير موسي والصافي سعيد والمنصف المرزوقي وفاضل عبد الكافي وغيرهم فيما تصمد النهضة و«حزب قيس سعيد»، أجل حزب قيس سعيد في مراتب متقدمة تأتي بعده أحزاب الشعب والتيار وآفاق وحتى قلب تونس وغيره في السباق البرلماني
ومن يدري قد تدخل باعثة حزب «الجمهورية الثالثة» المزاد الانتخابي وتضع لها قدما في استطلاعات الرأي القادمة المتصلة بالانتخابات الرئاسية والتشريعية وكذلك الأمر بالنسبة إلى مبادرة «تقدّم» التي أعلن عنها بعض المثقفين ونشطاء المجتمع المدني والسياسي قبل أيام
على ان ما يبعث على التساؤل – في باب الهزل والكاريكاتور ربّما – هو غياب أسماء وازنة ومؤثرة فعلا في المشهدية التونسية مثل رئيس منظمة الأعراف وخصوصا رئيس منظمة الأجراء الذي ظفر قبل أيام فقط بتزكية أكثر من تسعين بالمائة من أصوات الناخبين في مؤتمر ما يقال أنها «اكبر قوة في البلاد»، ألا يصلح بمنطق «القوة الجماهيرية» والتأييد الشعبي أن تكون هذه الشخصيات وغيرها ضمن المستهدفين من قبل شركات استطلاع الرأي ومستجوبيها وتدخل بالتالي السباق الرئاسي والتشريعي ؟
إننا لا نبالغ حين نقول أن نتائج بعض الاستطلاعات علاوة على عبثها بما نسميه التربية على الديمقراطية والتربية على المواطنة، تبدو وكأنها تجرى أو تأتي من كوكب آخر على حد قول الرئيس قيس سعيد ذات يوم حين تفاعل مع الأوضاع في تونس واستغرب صعوبتها
دعنا بداية من تفسير وتبرير طرح السؤال والبحث عن جواب مفاده التصويت لحزب غير موجود على قاعدة «الجمهور عاوز كدة» ثم سؤال الناس عن التشاؤم والتفاؤل والموقف من الوضع الاقتصادي لنصطدم بإجابات ونسب مائوية سلبية مفزعة، وفي نفس الوقت نسب جدّ إيجابية بخصوص الرضا على أداء من هو في الحكم والذي يتحمل نظريا مسؤولية : السلبية
تصوّروا مثلا حصول رئيسة الحكومة على 27 بالمائة من نسبة الرضا على الأداء أي بارتفاع بأربع نقاط كاملة بين شهري جانفي وفيفري الفارطين وفق «أمرود كونسيلتنغ» وهي النسبة الأعلى منذ دخولها القصبة في شهر أكتوبر الماضي
يحصل «الرضا» وعدد العائلات المعوزة ومحدودة الدخل بتونس يبلغ 963 ألف عائلة أي ما يعادل 4 ملايين تونسي يعانون من الخصاصة حسب وزير الشؤون الاجتماعية وفي ظل ارتفاع الأسعار وفقدان الكثير من المواد الأساسية وتدهور الوضع البيئي وتفاقم الجريمة والتهريب والاحتكار والهجرة غير النظامية واستمرار الأزمة السياسية بطبيعة الحال
بلغة الأرقام يوجد ببلادنا بين 20 و25 مكتبا أو شركة أو مؤسسة معلنة لسبر الآراء بعضها فقط مألوف ودائم الحضور في الإعلام والبقية تنشط أكثر بمناسبة الاستحقاقات الانتخابية وأحيانا تدخل «جهات» دولية على خط الاستطلاع والجميع كما أسلفنا يجاري المزاج بالتعويل على أخذ رأي عينات اجتماعية وأفراد يُقال أنهم يمثلون عموم التونسيين وتتم مساءلتهم بالهاتف مع إعلان هامش خطإ ضعيف للغاية
ويبقى الإشكال الكبير أن هذه المؤسسات باختلاف يافطاتها، تعاني من أزمة مصداقية – وفق نفس المزاج العام الذي رصدناه ونأمل أن يكون ضمن اهتماماتها وأسئلتها واستطلاعاتها أيضا- دون أن ننسى أن عددا كبيرا من التونسيين لا يؤمنون أو لا يثقون كثيرا في هذا العمل الذي يجهلون مصادر تمويله فإجراء استطلاع حول مواد استهلاكية وبطلب من منتجيها أو مستهلكيها معلوم وضمن تقاليدنا، أما الدخول على خط «الدعوي» و«الدعائي» و«السياسي» والتنافس والمنافسة في الاستحقاقات السياسية، فهذا يطرح أكثر من سؤال بحاجة إلى جواب
مراد علالة