ليست تونس بلدا منفصلا عما يجري في العالم من أحداث، فلو نظرنا إلى ما جرى في هذا القرن لوجدنا بلدنا متأثرا بكل ما يحدث خارجه من حروب ومن أزمات ومن صراعات حول الثروات ومن اكتشافات علمية ومن أوبئة أو منجزات عظيمة، ولنا دليلان واضحان لكل قارئ كريم: فهذا الوباء الذي بدأ في الصين وأثر على كل البشرية جاءنا من خارج البلاد، وكذلك جاءت لقاحاته من خارج البلاد، والحروب الضارية في العالم بين مراكز النفوذ تخيم بظلها على حياتنا وتحاول التدخل في اللعبة السياسية في بلادنا وكذلك في مصيرها بما يخدم هذه القوة أو تلك، ونجد أنفسنا دائما مجبرين على مقاومة علل قد تكون صادرة من الخارج ولكنها تؤثر فينا وفي حياتنا الاجتماعية والصحية والنفسية والاقتصادية، ذلك أننا نعيش في قلب عالم معولم تتحكم به شبكات عنكبوتية عملاقة لم نعد قادرين على الحياة خارجها، وتتحكم به قوى دولية ليس لها بالضرورة وجه وموقع جغرافي وتتمثل في أموال هائلة تتدفق من تجارة لا تنتج المعنى ولا تحقق الرفاهة بل العكس تماما : فتجارة السلاح والمخدرات وما يرتبط بهما من اقتصاد لتبييضهما سبب مباشر للخلل العظيم في ميزان القوى العالمي بين المتمسكين بالحقوق والكرامة البشرية وبين الأموال الهائلة التي تخترق تلك الحقوق لتحقيق المزيد من الأرباح المجنونة المنتجة لتفاوت عالمي عظيم بين دول الشمال والجنوب من جهة وبين الجهات في نفس الدول وبين الفئات المختلفة في نفس الجهة. إن عدونا اليوم ليسَ مرئيا بل ها هو يتسرب ليسكن لحمنا وجلدنا وعقلنا وقيمنا فيخضعنا إلى قوانينه ولعبته دون أن ندري فننخرط بدورنا في الشعبوية والأصولية والخوف والكراهية والعداوة لبعضنا البعض دون أن نعي أننا ندمر بذلك العقد الاجتماعي الذي يجعل من بلادنا وطنا جديرا بالعيش فيه
ومثال ذلك خلق صراع وهمي بين نساء كادحات ونساء برجوازيات (أي اولئك المتعلمات اللواتي بفضل اجتهادهن استطعن الترقي في سلم المجتمع) وهل يرغب المجتمع التونسي في غير أن يرى بناته وصبيانه في أعلى سلم المعرفة والعلم؟ لكن الخطاب السياسي يقلل من شأن هؤلاء ليرفع من قيمة اولئك. انظر نفس هذا يتكرر ثانية حين يتم محو رمزية 14 جانفي الجامعة لكل التونسيين بما هي لحظة سقوط نظام ساهم في خلخلته التونسيون بكل أطيافهم: اولاد الحوض المنجمي بقفصة ونساؤه منذ 2008 وصرخات شباب سيدي بوزيد والقصرين وغضب أبناء الأحياء الشعبية بالعاصمة وبناتها وانضمام الطيف النقابي القاعدي الواسع الذي لم ينفك يحرض العقول منذ تسعينات القرن الماضي على ما أذكر شخصيا في تجربتي بالمعهد الثانوي بباجة حيث كان المعهد يغلي غليانا ثوريا بكل الاتجاهات ويحرضنا على الاستبداد ويعلمنا روايات وقصص ويمرر لنا رمزيات متضاربة من ابن حنبل إلى ماركس وصدام وعبد الناصر وغرامشي فعجنها وعيُنا أو لاوعينا وصار الجميع رمزا لقول كلمة لا والتمرد على المظالم
لا يمكن في كل حال أن نحذف من تاريخ البلاد جزء من ذاكرتها منذ قيام الدولة في القرن الثامن عشر إلى اليوم، إنها صيرورة متواصلة وكل تجارب الحكم فيها مخابر أخطأ فيها الحكام وكذلك المحكومون، فإذا كان بن علي مستبدا وصاحب صورة الأب الحاني على الضعفاء فقد كان وجها لشعبه المستبد والحاني على الضعفاء، وإذا كان بورقيبة أنهى حياته بتكميم الأفواه بعد أن بدأها بوضع لبنات التعبير الحر وتعليم القراءة والكتابة والحداثة الثقافية فقد كان صنيعة حتمية التقاء عوامل يتحمل فيها الشعب التونسي كاملا مسؤوليته
أيها القارئ الكريم كما تكونون يولى عليكم، فإذا كنا شعبا حرا يكون حاكمنا وجها لنا وتكون سياستنا وجها لعلاقاتنا الاجتماعية، فتقوم على العدل إن عدلنا وعلى التداول على السلطة إن كانت علاقاتنا الاجتماعية خالية من الهيمنة وعلى الكرامة البشرية إن نحن كنا نعتقد حقا في كرامة الذات وحرمتها المعنوية والجسدية. أما إذا كانت علاقاتنا تقوم على الحقرة والتمييز بين القوي والضعيف والانثى والذكر والغني والفقير وذي الجاه والبسيط فهل تقوم لنا قائمة كدولة عادلة؟ وإذا كنا نعتمد العنف والصراخ في وجه أطفالنا كآلة للتربية فهل تكون شرطتنا بأعدل منا؟ وإذا كنا لا نقرأ ولا نعزف آلة موسيقية أو نتدرب على رياضة بدينية أو نتعلم لغة من اللغات الحية أو نتثقف حول الأمم والشعوب وتراثها وعاداتها واديانها وقيمها لندرك أننا لسنا أفضل أو أقل من شعوب الأرض، فهل يمكن أن نتحدث عن إصلاح تربوي أو مشروع ثقافي؟
إن العيد الحقيقي هو وعينا أن الثورة لا تأتي من الخارج على عكس البلايا والأزراء بل تأتي من الداخل أي منا نحن من إرادة ان نفعل وأن نعدل وأن لا نسمح للجهل بان يعشش فينا وأن لا يسوقنا أي حاكم كالدابة لسبب أو لآخر كان يتلاعب بانفعالاتنا ونقاط خوفنا أو هشاشتنا وكأن نشعر بالقهر لبطالة أو ظلم اجتماعيين فيتلاعب بغضبنا ويحوله ضدنا ليؤبد الوضع الذي نحن فيه
إن خلاصنا لا يكون باعتناق الوهم بل بالعمل وطلب الرزق في الأرض وطلب الفهم والعلم، فبتحمل المسؤولية الفردية في تنوير العقل وتحصينه ضد الجهل والتلاعب ننقذ بلادنا من مخاطر موجة تكتسح العالم كالكورونا تماما تتمثل في صعود الشعبوية المحافظة التي لا تختلف في شيء عن الأصوليات والإرهاب لانهم جميعا يتغذون من مخاوف الناس وفقرهم وألمهم وعلى وجه الخصوص من جهلهم. فلنوصد منافذ التلاعب بالعقول ولنحصنها.
بقلم زينب التوجاني