عن تونس العالقة نتحدّث

قيل لنا أن هناك دولة قانون ومؤسسات، دستورها لم يقدر على صياغته حتى فلاسفة التنوير ولا أحفاد الديمقراطيات، وخُيّل لنا أن في دولة القانون هذه يتمتع المواطنون بالحريات العامة والفردية، دولة تفصل بين السلط وتميّز بينها، توفّر الضوابط وتحترم التوازنات، فلا يمكن أن نرى بالمرّة انسدادا هنا أو هناك، لأن هذه السلط مرتبطة ارتباطا جذريا بالقانون، الذي هو أعلى من كل النصوص المطلقة، ومقيّدة بمبادئ الدستور، الذي هو أفضل دستور أخرج للناس

في دولة القانون والمؤسسات هذه لا يمكن لأي حزب أو حركة أو زمرة من الهواة أو فكر متطرف أن يشكّل خطرا على صمّامات الدولة، لأنّ قانونها ومؤسساتها صمامات أمان.. لذلك ينام المواطن قرير العين مطمئنا على مستقبل وطنه وأولاده، يستفيق على أبواب أمل تُفتح  من تلقاء بعضها البعض

لا يحدث عافانا وعافاكم القانون والدستور، أن نرى بالمرّة مؤامرات تحاك ليلا ضد الأشخاص فتهز أركان الدولة وتخلخل مفاصلها، لا نرى بالمرّة حملات شعواء رقطاء تشوّه وتصفي هذا، وتخوّن وتكفّر ذاك.. فقط معارك نزيهة وجها لوجه، حجة بحجة، معارك أفكار وبرامج.. فلا مكان بالمرّة للمطابخ السياسية ولا للمذابح المعنوية، لا مكان للغرف المظلمة ولا للمصالح الشخصية، لا مكان للتكالب والتهافت على حساب الوطن.. معارك بعيدة كل البعد عن ضربات الحزام ..عن الطعن في الخلف.. معارك لا تُكسر فيها العظام ولا تُقَطَّع فيها الأوصال

هذه طبيعة المعارك الراقية، فما بالكم بالمتبارين، أولئك الفحول الفطاحلة.. جلّهم من طينة رجال كرام، قليلة شقاقهم كثير توافقاهم، ذخر لبعضهم البعض، يحفظون إخوانهم في نكباتهم، وفي غيابهم يؤثرون بعضهم على بعض.. يهابون القانون وينحنون لعقيدة الدولة تكبيرا وتعظيما

حتى عندما يلعبون الشنطرنج مثلا، في أوقات فراغهم وهي قليلة أولا تكاد، من فرط براءتهم تحسبهم أطفالا صغارا، لا يتمارون، ولا يتشارون، ويؤثرون رغبات بعضهم البعض.. ولا تزيغ أعينهم على مكان ما في رقعة الشطرنج، لا يستعملون حتى كلمة : كش مات

وعند بداية كل سنة سياسية جديدة تصطف الصفوف بانتظام حتى لا يحدث -لا سمح القانون- استقطاب حاد.. وتشمّع المطابخ السياسية القذرة وتُصفّد الشياطين فلا يُشيطن أحد أو جهة أو حق

أولوية الأولويات التعاون على إنقاذ الاقتصاد وترميمه وبلورة الإصلاحات الهيكلية الممكنة.. فالبقاء للوطن والمواطنة.. حتى أن مقولات الفلاسفة استعصت في هذا الوطن فتدحرجت المعاني وبقي في أذهاننا أضدادها : قليلون حول السلطة، كثيرون حول الوطن

ولهذا سيذكرنا التاريخ أبطالا كفكفنا جراح ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وسترنا دماء شهدائنا بمزيد من الصبر والسلوان.. بمزيد من القانون والمؤسسات

بقلم سيماء المزوغي