كانت إلى زمن قريب تسمّى «عاصمة الجنوب»، يأتيها أهلنا من كافة مدن وقرى الجنوب التونسي للتداوي والدراسة وقضاء بعض الشؤون والخدمات والتزوّد بالمواد الأساسية، وكانت إلى زمن قريب أيضا بوابة بلادنا على الشقيقة ليبيا التي كان سكانها مستمعين أوفياء لـ «إذاعة صفاقس» قبل لجم صوتها من المركز
كانت علاوة على ما تقدّم عاصمة النضال النقابي ومهد الحركة العمالية التي أنجبت فرحات حشاد والحبيب عاشور وغيرهما، وكانت منشأ السياسيين الوطنيين من أبناء تونس البررة قبل الاستقلال وبعده، وهي التي رجّحت كفّة المنتفضين في ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة بتنفيذ الإضراب العام والتجمّع الشعبي المهيب يوم 12 جانفي الذي خفّف الحصار على بقية المدن المنتفضة وقلب المعادلات التي عجّلت بهروب رأس النظام
بعد ذلك كانت الأحلام كثيرة في تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة، وكانت صفاقس من أكثر المدن استعدادا للمساهمة أوّلا في الحفاظ على المكتسبات وثانيا الإقلاع والنهوض بأوضاع سكان الجهة وضمان عيشهم الكريم بشكل يعود بالفائدة على بقية البلاد والعباد
للأسف، كابدت الجهة حيفا وفشلا وضيما مزدوجا من السلطة المركزية والسلطة المحلية، والأخطر من ذلك أن من حكموا البلاد خلال العشرية الماضية فرّطوا في مكاسب صفاقس ونسفوا كل إمكانية للنهوض بها
صفاقس، عاصمة الجنوب «سابقا» والمدينة الثانية في تونس «سابقا» تستغيث، ولسنا نبالغ حين نقول أنها اليوم مدينة منكوبة، وجهة مظلومة وولاية خارج الجمهورية أو بالأحرى خارج حسابات حرّاس الجمهورية
هل يعقل أن تظل صفاقس دون والِ الشهر تلو الشهر ؟ قد يقول البعض وما المانع في ذلك إذا كانت قابس التي عاشت نكبتين خلال الفترة الماضية وهما غرق ناقلة النفط وحريق السوق الكبير، وغيرها من الولايات دون والٍ وعديد المعتمديات دون معتمد ؟
الأمر بكل المقاييس غير مقبول، لكن تفاقم الأوضاع في صفاقس وبداية تململ الجهة ينذر بالكثير الذي لا يتوقّعه أحد ولا يستطيع رسم أو ضبط مربّعه أحد
الصورة في صفاقس اليوم كارثية وتبعث على الازدراء وعلى التساؤل في نفس الوقت كيف صمد «الصفاقسية» وسكتوا وضبطوا النفس كل هذا الوقت
جزء من الإجابة تخبّئه الأيام القادمة لكن الجزء المكشوف الآن هو إضراب عام جهوي في قادم الايام وحركة مدنية مواطنية ونداء استغاثة سلمي أطلقته منظمات المجتمع المدني
لقد أقرت الهيئة الإدارية الجهوية العادية للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس التي انعقدت يوم الخميس 26 ماي الجاري، تنفيذ إضراب جهوي عام «على خلفية تردي الوضع البيئي والتنموي والاقتصادي الذي تمر به الجهة» وهو نفس الإضراب الذي وقع إقراره مطلع السنة وتحديدا يوم 12 جانفي وتم تأجيله على إثر اتفاقيات مبرمة بين الإتحاد العام التونسي للشغل والحكومة التي لم تف بتعهداتها ولم تلتزم بتفعيل الاتفاقيات
وبدوره أطلق المجتمع المدني أول أمس الجمعة 27 ماي نداء استغاثة وعبّرت عديد المنظمات الوطنية والجمعيات في بيان مشترك عن تخوفها من الانهيار الكامل للأوضاع البيئية بصفاقس وانعكاساتها الخطيرة على صحة المواطن وحياته
ودعت الأطراف الموقّعة رئيس الدولة إلى التدخل ووزارة البيئة إلى سحب مقترح الاستشارة الموسعة لحل أزمة النفايات لأنه مضيعة للوقت ومحاولة يائسة لتقسيم الجهة
اللافت في قائمة الموقّعين على البيان، إلى جانب الأطراف التقليدية كاتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان واتحاد المرأة واتحاد الفلاحين ونقابة الصحفيين وهيئة المحامين وكثير من الجمعيات البيئية انضمام الجمعيات الرياضية وفي مقدمتها النادي الرياضي الصفاقسي وهو ما يؤشّر إلى أن الجميع ضاق ذرعا في صفاقس من الأوضاع المزرية بسبب فشل السلطة المحلية والسلطة المركزية في إيجاد الحلول أو على الأقل مدّ يد العون لأبناء الجهة دون تعطيلهم وإعاقة عملهم
إن ذرّ الرماد على العيون بالزيارات الاستعراضية لبعض الوزراء الذين لا حول لهم ولا قوة سوى بيع الأوهام أو التصورات التي هي بالفعل غير تقليدية وغير متناسبة مع متطلبات الحكم كالحديث في كل مرة عن استشارة موسعة لربح الوقت والتعويم في انتظار تشغيل : المترو الخفيف
إن الأزمة في صفاقس على غرار الأزمة في البلاد مركبة.. وهن اقتصادي واجتماعي وتدمير عبثي للحرف بشتى أنواعها وتهجير لـ»الصنايعية» وترحيلهم إلى مهن هشّة بالنسبة إلى البعض وعلى البطالة القسرية بالنسبة إلى البعض الآخر
ولا يقتصر الأمر على التلوث البيئي الذي أصبح لا يطاق فهناك أزمة أمن وسلامة للمواطنين في صفاقس وهناك انفلات وانتصاب فوضوي في مداخل المدينة وأسواقها و»باندية» يتحدون الدولة ويقيمون أحكامهم على الجميع أمام الجميع وفي ظل صمت الجميع
بقلم : مراد علالة