تونس تدخل مرحلة تنفيذ « المشروع السياسي » لقيس سعيد

الرئيس وضّح.. ولم يُبدّد الغموض والمخاوف

يومان فقط بعد زيارته « الفجئية » التي حضرها أنصاره حصريا في سيدي بوزيد، وبشّرهم خلالها بان الترتيبات للمرحلة القادمة « قريبة جدا » وبأن الأمر لا يتعلق بـ »تغيير الحكومة » وإنما بـ »تغيير المنظومة »، أصدر رئيس الجمهورية قيس سعيّد مساء الأربعاء 22 سبتمبر 2021 أمرا متعلقا بـ »التدابير الاستثنائية » تم نشره بالرائد الرسمي وهو نص قانوني يضع جملة من النقاط على الحروف في علاقة بما بعد « 25 جويلية » دون الذهاب في صلب الموضوع بإزالة الغموض وتبديد المخاوف المشروعة من الآتي

هي خطوة متقدّمة ليست فقط في اتجاه تقنين وتأمين ومتابعة ما أقدم عليه الرئيس يوم عيد الجمهورية الأخير وتحويله وتحصينه وتجذيره كأمر واقع اختلفت حوله الآراء بين معارض ومساند ومساند نقدي لما سُمّي لدى البعض « انقلابا » ولدى البعض الاخر « حركة تصحيحية »، وإنما تدشينا فعليا للمشروع السياسي لقيس سعيد والذي شرع في بلورته والتعبئة له والحشد له منذ زمن بعيد مباشرة بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة ولم يُخف ذلك خصوصا في حملته الانتخابية يوم حسم الأمر مع أنصاره وقرّر دخول السباق الرئاسي في 2019 وليس في 2014 لأن الظروف لم تنضج بعد

ومن خلال الأمر الرئاسي الذي لم تكن كتابته قانونية وتقنية صرفة، ولجأ فيه الرئيس إلى القاموس السياسي والى الوجدان للحديث عن « رفض الشعب » لشيء ما مقابل الحرص على الاستجابة لـ »الإرادة الشعبية » والانطلاق على أساسها لبناء النظام السياسي الجديد، يطوي ساكن قرطاج صفحة من تاريخ البلاد، هي صفحة بالفعل بحاجة للنسيان بشرط استبدالها بصفحة جديدة ناصعة البياض يخط فيها الشعب بالفعل لا بالقول فقط ما يريد وهو ما لم تتضح معالمه الآن

صحيح أن صفحة ما قبل 22 سبتمبر و25 جويلية 2021 يجب أن تُطوى في ما يتصل بمنظومات الحكم المتعاقبة التي تسبّبت في الخراب الذي نحن فيه، وصحيح أيضا أن من تسبّب في الأزمة وفي استفحالها وتغذيتها لا يمكن أن يكون طرفا في الحل، ونتحدث هنا بوضوح عن تنظيم النهضة الذي كان العمود الفقري للحكم خلال العقد الأخير، لكن « الأمر الرئاسي » يثير أسئلة حارقة لا يمكن القفز عليها أو شيطنة وتخوين من يطرحها أو اختيار سياسية الأذان الصماء للإيهام بعدم سماعها

لقد غير الرئيس قيس سعيد بـ « أمره » نظام الحكم بشكل صريح وقطع مع ما يسمّيه البعض نظاما برلمانيا أو نظام الشبه الشبه أو النظام الهجين الذي كان قائما بثلاثة رؤوس يعطلها برلمان العبث والعنف بفعل خارطة سياسية مختلة ومعادلة حكم ومعارضة أكثر اختلالا وارتباكا نتيجة النظام الانتخابي ايضا وضعف الثقاة الديمقراطية كي لا نجازف بالقول بغيابها

اللافت أيضا أن الرئيس بـ « أمره » أعادنا إلى المؤقت، وربما المؤقت الذي يدوم، فهو يتحدث عن التدابير الاستثنائية والاستثناء يعني الوقتي بيد أننا نعلم اليوم فقط أننا دخلنا الاستثناء ولا نعلم متى سنخرج منه هذا « التوقيت المناسب » كما جاء ذات يوم في أدبيات الأمريكان الذين زاروا بلادنا وتحادثوا مع رئيس الجمهورية

ليس ذلك فحسب، في الأمر الرئاسي – الدستور الصغير – لبس بشأن الدستور السابق، دستور 2014 حيث لا نرى مجالا ووجاهة للربط بين « الدستورين » فنأخذ من القديم كل شيء لصالح « الرئيس » في الجديد، ونُبقي على الحريات والقانون وحقوق الإنسان في القديم والحال أن هذا الموضوع أصبح في تونس بعد 2011 من البديهيات ومن تحصيل الحاصل إن جاز القول علاوة على الالتزامات الدولية للدولة التونسية من خلال العهود والاتفاقيات التي صادقت عليها

إضافة إلى كل هذا، تبدو بصمة « خبراء القانون » من « الثقاة » واضحة في « أمر » سيادته غير أن نصا هو في مرتبة الدستور الصغير يستوجب التحاور والتشارك في إعداده ليس حبّا في كتابة الدساتير والقوانين أو إضاعة للوقت، ولكن تعزيزا للشرعية والمشروعية في غياب الهيآت المنتخبة الأخرى والهيآت الرقابية جراء غياب المحكمة الدستورية وإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وعدم اختصاص المحكمة الإدارية

إن دستورا صغيرا أو كبيرا هو بمثابة العقد الاجتماعي، وصياغة العقود الاجتماعية تقتضي توسيع دائرة التشاور والتوافق والتشارك على قاعدة المصلحة الوطنية وتكريسا للإرادة الشعبية بما أن كل طرف اجتماعي أو سياسي يمثل في النهاية طيفا من الشعب وبالتالي يعبر عن إرادة جزء من هذا الشعب لذلك لا يجوز اختزال الإرادة الشعبية في شخص أو فرد أو كيان واحد مهما يكن حجم الأصوات المعطاة إليه في الانتخابات لأنها تظل في النهاية ترجمة للشرعية الجزئية أو القطاعية التي تعود فقط إلى جمهور ناخبيه وعلى هذا الأساس نعود إلى المعادلة الديمقراطية في وجود الأغلبية والأقلية وضرورة التعايش بينها في الإطار الديمقراطي، وإذا انتفي أو وقع إقصاء طرف في هذا المعادلة انتفى الحديث عن الديمقراطية

هذه النقطة بالذات تحيلنا إلى المحاذير والمطبّات التي يتوجب أن ينفتح صدر رئيس الجمهورية لقبولها والتفاعل إيجابيا معها وألا يضيق صدره بأصحابها الذين هم في نهاية المطاف مواطنون ولهم مشاريعهم السياسية التي يتحملون وزر نجاحها وفشلها تماما مثله، وكما حمّلنا النهضة ورئيسها راشد الغنوشي مسؤولية عقد من الفشل على جميع الأصعدة فإن الرئيس قيس سعيد بتأسيسه الجديد سيتحمل مسؤولية النجاح أو الفشل بمفرده

في غضون ذلك لا مناص من البقاء في مربع العمل السياسي المدني وعدم الانجرار إلى مربع العنف والتضييق على الحريات تحت يافطة التدابير الاستثنائية ولا مناص من مد الأيادي وفتح باب الحوار والتشاور مع من لم يكن سببا وجزء من الأزمة والأخذ بعين الاعتبار أن البلاد مقدمة على ظرف دقيق أقل ما يقال فيه أنه مأزوم للغاية

وهنا أيضا من المغالطات ومن باب الاستهانة بذكاء التونسيين اختزال الأمر في أزمة سياسية وتقديم الوصفة السحرية للانقاذ على أساس أنها وصفة سياسية وقانونية ودستورية بامتياز والحال أنها أزمة مركبة وشائكة ولا يمكن القفز على بعدها الاقتصادي والاجتماعي

ولأصحاب الذاكرة الضعيفة أو « الأذكياء » جدا فإن التونسيين انتفضوا بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 وقبل ذلك في الحوض المنجمي من اجل الحرية والكرامة وطالبوا بالعدالة الاجتماعية ورفعوا شعار « التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق » أي أنه لم تكن لهم النية في إعادة اكتشاف الإسلام أو التشفي من فلان أو استبداله بآخر عبثا وتصفية للحساب، بل كانوا يحلمون بتونس الجديدة الدولة الديمقراطية الاجتماعية التي تحفظ لمواطنيها الحريات والعيش الكريم وهو ما يريده الشعب – أو لننسبّ ونقول طيف من الشعب – يريده بوضوح وبضمانات من الرئيس

مراد علالة