تونس بين العبث الدبلوماسي و السقوط الجيوسياسي

‎تشهد تونس حاليًا تحولًا دراماتيكيًا في مسار سياستها الخارجية، حيث تسير نحو تراجع غير مسبوق عن قيمها الدبلوماسية العريقة المترسخة عبر التاريخ على ا الحياد الاستراتيجي والمحافظة على التحالفات الإقليمية مع تجنب الانحياز في الصراعات الجيوسياسية المعقدة والقضايا الدولية الحساسة

‎وتأتي هذه التغيرات نتيجة للمسار الضيق الذي سلكه رئيس الدولة للتفرد بالحكم، لكي ينتهي به الطريق إلى الاختناق بعزلة دولية قاتلة، والتخبط بين الصراعات الداخلية والمحاكمات السياسية وما تولده من احتجاجات شعبية، وبين عجزها عن حل الأزمات الاقتصادية، وانهيار جسورها نهائيًا مع مفاوضات صندوق النقد الدولي

وفي ظل هذا الفراغ المهيمن على جميع هياكل الدولة، وجهت طهران بوصلتها نحو تونس، و تحركت اذرعها لاستغلال الوضع من اجل تعزيز توسيع نفوذها وإيجاد بدائل في المنطقة ، خاصة بعد ان شهدت تغييرات جذرية انهكت نفوذها في الشرق الأوسط، عقب سقوط حليفها السوري الرئيس الأسبق ؛بشار الأسد، وانهيار قوى حليفيها “حزب الله” في لبنان وحركة “حماس” في قطاع غزة… فشهدت العلاقات التونسية الإيرانية فجأة تطورا ملحوظا.. حيث أعلن السفير الإيراني في تونس عن تشكيل لجنة اقتصادية مشتركة بين البلدين، عقب مكالمة هاتفية بين وزيري خارجية البلدين. وشاركت تونس، في الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، الذي جاء بطلب إيراني واحتضنته مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية. كما أعلنت السلطات التونسية عن قرار إلغاء التأشيرات للمواطنين الإيرانيين

وهو ما أثار التساؤلات حول إمكانية تأثير هذا التحالف على علاقات البلاد الخارجية مع حلفائها الإقليميين التقليديين، فازدادت المخاوف والدعوات الملحة للنأي بتونس عن أتون الصراعات الدولية الثقيلة، ليواصل قيس سعيد حكمه على منهج “ولاية الفقيه”، رغم الضغوط الصارمة التي تواجهها إيران جراء العقوبات الدولية، ومع كل الخراب الذي شهدته البلدان العربية اثر توغل الاذرع الإيرانية و انتهاجها لسياسة الحروب بالوكالة

فجاءت، زيارة الرئيس التونسي، قيس سعيد، إلى إيران للمشاركة في مراسم تشييع الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، لتجسد تجاوزًاً لتقليد سياسي و وطني تونسي يعود لأكثر من ستة عقود ، وتكون أول زيارة مسؤول رئاسي تونسي لإيران بعد الاستقلال البلدين، منذ الزيارة التاريخية التي قام بها الحبيب بورقيبة عام 1965، حين كانت السلطة تحت إدارة الشاه محمد رضا بهلوي

و في إطار الجهود الرامية للتغلغل الثقافي والفكري للأيديولوجية الإيرانية في تونس، فقد أقيمت ندوة بعنوان “مكانة المرأة في المجتمع الحديث: التجربة الإيرانية والتجربة التونسية” خلال “الأسبوع الثقافي الإيراني التونسي” والقت نساء من الحرس الثوري الإيراني الخطابات والدروس حول “حقوق المرأة”، مما أثار ردود فعل كبيرة في المجتمع التونسي. إذ اعتُبرت المقارنة بين التجربتين التونسية والإيرانية تراجعاًً عن مكاسب المرأة التونسية وثوابت مجلة الأحوال الشخصية، وانتقاصاً من كرامة النساء التونسيات ومساساً بالتقدم الذي حققنه على مدار عقود من النضال

واعتبرت مداخلة مساعدة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي بالخصوص بمثابة تحدٍ واضح للنساء التونسيات، إذ قدّمت لهن في عقر ديارهن ، دروساً حول “مكانة المرأة” بينما في الواقع ان الإنجازات المزعومة السيدة” أنسية خزعلي ” في هذا المجال ، لا تتجاوز عدد الاحكام الصادرة في اعدام الـنساء الإيرانيات من اجل “جرائم الشرف ” أو عدد ضحايا زواج القاصرات و زواج المتعة أو جهاد النكاح .. وربما كان نموذج “مهسى أميني” النموذج الوحيد الذي قد غاب عن السيدة “خزعلي”، التي كانت المرأة الوحيدة في حكومة رئيسي ووحدها كانت تستميت في الدفاع عن نظامه وعن جرائمه ضد النساء الإيرانييات

وعلى المستوى المغاربي

تدهورت العلاقات التونسية المغربية في السنوات الأخيرة، لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ استقلال البلدين، وذلك بعد ثلاثة سنوات من الجمود والركود الدبلوماسي والصمت الااتصالي ، وغياب التهاني و تواصل شغور مناصب السفراء الذي جاء ، بعد استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد لزعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، في صيف 2022، ،وهو ما اعتبرته الرباط “مكاناً خطيراً وغير مسبوق” يسيء إلى مشاعر الشعب المغربي ومكوناته الأساسية

و في تناقض صارخ آخر مع خطها التاريخي القائم على الحياد الإيجابي ومحاولة التقريب بين الأشقاء بدل تغذية الخلافات.، زجت الدولة التونسية نفسها في أزمة دبلوماسية “مجانبة ” مع المغرب ، نتيجة ظغوط ا”الشقيقة الكبرى ” الجزائر، وانزلقت في التصعيد 

وسط محاولات الرئيس تبون المتواصلة لاستخدام ورقة تونس وأزمتها السياسية الخانقة، و موجهة الغضب الشعبية المتصاعدة، واتهامات قيس سعيد بالتبعية للدوائر العسكرية الجزائرية، التي تستمر في توظيف الأزمة التونسية لصالح أجنداتها الإقليمية، حتى صارت عاجزة على استقلالية قرارها السياسي، بعيدا عن أية تأثيرات خارجية

و بالرغم من هذه القطيعة بين الجارتين ، إلا أن الأمل كان يعم شعوب شمال إفريقيا بعودة العلاقات التونسية المغربية إلى طبيعتها، حتى جاءت توجهات الرئيس قيس سعيد مخيبة لكل الآمال مرة أخرى و متحدية لكل الأعراف الدولية والإقليمية ، حيث اسنتقبل مجدداً أفرادًا من البوليساريو في شهر أبريل الماضي ، خلال مؤتمر عُقد في العاصمة تونس تحت شعار : بناء التماسك الاجتماعي في عالم متغير

وفي زمن العبث الدبلوماسي، جاء التصعيد الأخير في وقت كانت كل المؤشرات  تدل على احتمال تصنيف واشنطن جبهة البوليساريو كمنظمة إرهابية، وتزامن بعد يومين فقط من التصريح القوي لمبعوث الرئيس ترامب للشؤون العربية والشرق أوسطية والإفريقية- الدكتور؛ مسعد بولس- حين افاد بان : “الموقف الأمريكي من قضية الصحراء صريح جداً ولا يتخلله أي شك أو لبس”، مُشيرًا إلى أن ملف الصحراء يمثل “أولوية قصوى” بالنسبة للبيت الأبيض. وأنه ينوي القيام بزيارة رسمية إلى المغرب والجزائر في الأيام القليلة المقبلة. والمتوقع أن ينجح الدكتور بولس بتسوية سياسية شاملة لقضية الصحراء ، خاصة بعد النجاح الكبير لزيارته الأخيرة لأربعة من الدول الأفريقية ووصوله إلى تقديم مقترح اتفاقية سلام تاريخي بين الكونغو الديمقراطية و روروندا، ليصبح مهندس السلام الأول في إدارة الرئيس ترامب بلا منازع ويطرح كل القضايا االعربية والأفريقية وتبقى تونس في عزلتها بعيدة عن كل الاهتمامات كانّها “مقاطعة جزائرية” في عهد قيس سعيد

وبينما كان من الأجدر للدولة التونسية ان تهتم بحل ازماتها الداخلية وتقدم مصالحها على مصالح البلدان أخرى وتنأى بنفسها عن هذه الصراعات الأقليمية والدولية والتحولات الجيوسياسية المعقدة، التي لا تحمل سوى عواقب وخيمة تفضي بالبلاد إلى هوة جيوسياسية مدوية ووضع يصعب إصلاحه أو السيطرة عليه

إلا أن قيس سعيد يستمر في سياسته الخارجية المتهورة واللاعقلانية و يواصل خنقته الدبلوماسية فيغامر بكل مصالح الدولة ويرسم وحده تحالفاته الجيوسياسية مقابل سلطة بلا سيادة، لرئيس بلا شرعية

و بين احضان ميلوني وأكتاف ماكرون وأذرع الخميني وسندان الجزائر ومطرقة واشنطن .. نخاف ان تنهار الدولة التونسية

بقلم الدكتورة : شيماء العماري

المصدر :capitolinstitute.org