السّياسة كلعبة سيبرانيّة

ستحول الاستشارة الوطنية الفعل السياسي في تونس إلى العالم السيبراني/الافتراضي بوضوح أكثر من ذي قبل: حشود من الجالسين وراء شاشات الهواتف والحواسيب يكفي أن تضغط على رقم وشفرة حتى تفتح أمامها بوابة الأسئلة الخاصة بالاستشارة الوطنية، وبعد موت الأحزاب وموت العمل الحزبي التقليدي ها هي خطوة جديدة لموت المنظمات الكبرى والعمل المنظم بل موت تسميات من نوع « الحوار الوطني ». وماذا سيبقى حين تتحول المشاركة السياسية إلى مجرد الرد بنعم أو لا وبمجرد ملء الخانات واختيار الإجابة المناسبة. وهل يمكن لهذا الشكل أن يحقّق للناس غرضهم العميق في التعبير عن تصوراتهم وآرائهم؟ وهل فعلا يعرف الشباب ومستخدمو الهواتف والحواسيب ماذا يريدون؟ هل يعرفون حقا ماذا يقترحون وعلى أي أساس تقوم معرفتهم تلك؟ وماذا عن اؤلئك الذين ليسوا متصلين بالفضاء السيبراني أو الذين ليسوا أصلوا معترفا بهم وليس لهم هوية؟

لقد أنتج الباحثون التونسيون المنحدرون في الأغلب من شرائح متوسطة في المجتمع بل وفقيرة كذلك والصاعدين إلى الجامعة والبحث العلمي من المدن ومن البوادي والمدارس النائية، لقد أنتجوا مئات الأطاريح الجامعية حول كل مظاهر التنمية بكل وجوهها، وبعض تلك الأبحاث بقيت حبيسة الرفوف في الأرشيف وبعضها وجد طريقه للنشر. نعني أن المشاكل التنموية التي يواجهها التونسيون اليوم فيها بحوث عديدة على مر السنين، بدء بمشاكل الأراضي والماء والتنمية الجهوية وصولا إلى قطاعات الخدمات والنقل والصحة والتعليم. ولكن الذين وضعوا أسئلة الاستشارة يستفتون المنخرطين ليعرفوا آراءهم ومقترحاتهم كأن من واجبات المواطنين أن يكونوا عارفين جميعهم في الزراعة والاقتصاد والفلاحة والصيد والنقل والتعليم ومشاكل التوريد والتصدير. وكأن العالم كان قبل مجيء هذه الاستشارة الالكترونية يمشي في ضلال مبين حين اخترع آليات ديمقراطية لتمثيل القوى الاجتماعية فجاءت هذه الحشود الالكترونية لتعيد للعالم صوابه وتعلّمه كيف تكون السّياسة والديمقراطيّة والإرادة الشعبيّة

إنّ حالة إنكار السّلطة الحاكمة اليوم المتمثّلة في القوى المتحدثة باسم الرئيس قيس سعيد لمسار بناء الدولة الوطنية والإخفاقات والنّجاحات، وحالة إنكارها كونها ثمرة تلك الدولة التي يعتقدون أنها « سلطوية » و »نخبوية » وتفرض عليهم بالقوة من فوق ايديولوجيتها، هذه الحالة من الإنكار تبدو خطيرة ومرضية. ذلك أن فكرة التظلم بكون الدولة الوطنية فرضت حداثتها على الناس بالقوة هي فكرة الإسلام السياسي التي بها انغرس واستخدمها للتلاعب بالهويات الهشة. والقوى الحاكمة اليوم في تونس تضع نفسها في مواجهة شكلية مع النهضة ولكنها في العمق تحمل نفس الآليات والعلل والأفكار. من بين تلك الأفكار: التقسيم إلى نخبة وشعب. في حين أنه لا وجود لنخب سوى اولئك الذين تدرجوا في مراتب التعليم من الشعب نفسه الذي حرص على تعليمهم حين كانت قوى الدولة الوطنية موجهة لبناء مناعة رمزية . ورغم خيبات هذا البناء ورغم هناته وعيوبه وماتخلله من خرق للحريات أو تلاعب بالحداثة لخدمة غايات فئات مهيمنة فانه لا بديل للناس عن آليات الدولة الوطنية. فالدولة الوطنية حتى بموروثها الأبوي القامع يمكن العمل على إصلاحها لتكون أكثر رحابة واتساعا ويمكن أن يعاد هندستها على أساس الاختلاف والحريات ولكن تفكيك هذه الدولة الضامنة للتعايش السلمي عبر مقولات من داخل الدولة نفسها كمقولة « الحكم للشعب وحده » والقصد منها توجيه السلطة لمجموعة جديدة لتحكم بهذا الشعار وتقلب الادوار والمواقع فان هذا يعيدنا إلى نفس لعبة الحكم من سقيفة بني ساعدة إلى اليوم : الصراع على السلطة لا أكثر ولا اقل وفي كل مرة يتغير الشعار المرفوع

المشكلة تتضاعف حين تتحول بنية الأبوية القامعة والمهينة للكرامة الإنسانية من الفضاء الواقعي حيث تنكشف عادة عيوبها وحدودها لتصبح لعبة افتراضية، وتظن أنك بالمشاركة فيها فعلت في الواقع ولكن الفاعل الوحيد في الواقع هو من وراء البرمجية والتطبيقة ومن سيحلل مخرجاتها ويحدد توظيفها، وهؤلاء الذين سيحددون توظيفها هم أولئك الذين بفضل الدولة الوطنية وخيباتها ونجاحاتها وصلوا للسلطة ولكنهم ينكرون ذلك المسار ويرفعون شعارا خاليا من العلاقة بالواقع يتمثل في « معاداة النخب » ووضعها في سلة واحدة وشيطنتها جميعا. وإن تفكيك هذا الخطاب المريض لمضيعة جديدة للوقت وإهدار للطاقة. فخلل الإسلاموية والشعبوية يتضاعف في العالم الافتراضي ليمسي كشبكة عنكبوت تلقي بظلها الكئيب على ما تتطلبه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية من عقلنة للفعل الاجتماعي والسياسي وتظافر كل الطاقات لايجاد حلول جماعية ذكية لمشاكل جماعية

بقلم زينب التوجاني