أهلا صديقاتي وأصدقائي
شنوة رايكم؟ نواصل قراءتنا للفصل 5؟
توقفنا أمس عند نتيجة هامّة، وهي
ــــ أنّ المقاصد ملجأ ابتدعه الفقهاء وبدأت بوادره منذ النصف الثاني من القرن 3 هـ.. معناه هي اجتهاد انساني محض للخروج من مأزق الوعي بأنّ القرآن لم يتحدّث في كلّ شيء، وإنّما في مسائل معلومة لا غير، وهذا مشغل آخر، وأخشى عليكم منه لأنّه متشعّب بالأشواك.. وكالعادة فإنّ الحلول دائما مودعة في جراب فقهائنا الأشاوس.. ورغم السماح بفتح باب الروايات الموضوعة عن الرسول، والموضوعة معناه الكاذبة فإنّهم ظلّوا يلهثون وراء النوازل التي تكاد لا تتشابه.. فكان أن أذعنوا لحقيقة فشل أصول الفقه التي حاولت أن تكبح جماح هذه النوازل
ــ الحلّ السحري؟ هو المقاصد.. كما بينت لكم. وغاب عنهم أنّهم جعلوا الفقهاء في مرتبة أعلى من مرتبة الله، إن لم أقل كمّموا كلمة الله وأطلقوا لسان الفقهاء
ماذا نتج عن ذلك؟ ومتى؟
يمكن أن أقول إنّ الأمور استتبت للفقهاء وأصحاب السلطان بداية من القرن 5 هـ، ونتج عنه أن ازدهرت تجارة جديدة لم تكن موجودة.. هي في الحقيقة ثمار قطفها هؤلاء العلماء عندما وُفِّقوا في تسييج الفكر ومنه تسييج التشريع.. وضمنوا بقاء هذه التجارة عن طريق بنية هرمية قامت عليها المجتمعات الإسلامية
هذا الهرم قاعدته العامّة ويسميهم الفقهاء بالطغام، وحذار: فالعامّة هم من الأحرار لأنّ العبيد مالٌ يستثمر مثله مثل الحيوان من الأبقار والشياه…وهم يصنّفون إلى مراتب بحسب حِرفِهم..من الحرف الدنيئة إلى الشريفة.. إلى أن نرتقي إلى مرتبة أهل الحلّ والعقد والخاصّة فنصل إلى مرتبة الإمام في أعلى قمّة الهرم
حافظت الدول الإسلامية على هذه البنية الهرمية، ولا أبالغ عندما أقول إلى الآن .والفضل في ذلك يرجع أصلا إلى نشأة علم جديد مع جملة من علوم الأخرى ، تولّدت من علم المقاصد، وهو علم السياسة الشرعية / الفقه السياسي
لا أخفي عنكم أصدقائي أنّي أحسست وأنا في قراءتي الأولى لنصّ الدستور « كأنّ الريح تحتي » كما قال المتنبّي… بحثت عن أرض صلبة أضع عليها قدميّ عسى أن تعيدني إلى الواقع… فلم أجد…نظرت كالمستغيث إلى مكتبتي التي تسند ظهري فإذا بالماوردي يتمطّط متثائبا.. وإذا بي أتصفّح أوراق المشروع وكأنّني أتصفّح كتابه في « الأحكام السلطانية والولايات الدينية » عدت باللوم على نفسي.. واتهمتها بالمبالغة لكن.. ما إن أتممت قراءة بقية الفصول حتى أدركت أنّنا نسير سريعا على أعقابنا.. وأنني في حضرة إمام هَزَمَ رئيسي وابتلعه مثل التنين.. نظرت في مراتب الوزراء علّي أعثر عن صفات تخرج بي عن تصنيف الماوردي فإذا بحكومتي الموعودة لن تكون مركّبة سوى من وزراء « تنفيذ » كما ينعتهم الماوردي..، هم أعوان تنفيذ لا غير ..يقول الماوردي: وَأَمَّا وَزَارَةُ التَّنْفِيذِ فَحُكْمُهَا أَضْعَفُ وَشُرُوطُهَا أَقَلُّ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَتَدْبِيرِهِ، وَهَذَا الْوَزِيرُ وَسَطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعَايَا وَالْوُلَاةِ يُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَمَرَ، وَيُنَفِّذُ عَنْهُ مَا ذَكَرَ، وَيُمْضِي مَا حَكَمَ، وَيُخْبِرُ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنْ مُهِمٍّ وَتَجَدَّدَ مِنْ حَدَثٍ مُلِمٍّ؛ لِيَعْمَلَ فِيهِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَهُوَ مُعِينٌ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ
ولذلك لا يرى الماوردي حرجا في أن يكون هذا الصنف من الوزراء من العبيد.. وتذكّروا أصدقائي كيف كان البايات يُعَيِّنون الوزراء من العبيد لأنّهم ملوك يطبّقون السياسة الشرعية
ومن هذه النقطة تولّد التناغم بين بقية الفصول والفصل 5.. فصل كنت قد نعتّه بالتنين.. ولو وجدت نعتا أقوى لأضفته إليه.. لأنّه فصل أساسي حتى يدخل وزارات الدولة المدنية إلى بيت الطاعة ويحوّلها إلى ولايات دينية
هذا ما فعله بنا الماوردي، وحتى لا يحدّثنا عنه إمامنا المنتظر بكلام عاطفي فإنّي أسبقه و أقول لكم : إنّ الماوردي نموذج من طينة فقهاء وهبوا أنفسهم في خدمة السلاطين والملوك، وجنوا على دولهم فاستعبدوا مجتمعاتهم وألحقوهم بالدولة وربطوا الأقاليم بالسلطة المركزية، ورسَّخوا في عقول البشر حق السلطان عليهم، وحذفوا حقوق الآخرين على السلطان
والنتيجة…أن اهترأت دولة الإسلام وتهاوت منذ القرن الرابع، حتى لا أقول منذ تأسيسها، لتنقسم إلى دويلات، و همّها الوحيد الدفاع عن قطعة أرض تملّكتها ..ولم يبق من مفهوم الأمّة سوى ذاك المصطلح الأجوف.. فانطبق عليهم قوله تعالى » كنتم خير أمّة » أجل كانوا ..فاضمحلّوا ..وعلى من لم يصدّق قول الله أن يفتح عينيه فسيرى أمرا مريرا..وتلك هي سياسة الفشل التي لم ينفكّ التاريخ ينبّه إليها
هذه صديقاتي أصدقائي بنية نصّ المشروع
وفي المرّة القادمة سأحكي لكم عن البرنامج الذي دُبِّر بليلٍ في تأسيس الولايات الدينية من خلال الفصل 5
الدكتورة نائلة السليني