الحوار الوطني ليس الحل

تعددت المبادرات الساعية لإيجاد مخرج للأزمة السياسية التي تردّت فيها البلاد بعد تراكم السياسات الفاشلة التي انتهجتها الحكومات المُتعاقبة منذ عشر سنوات وبعد الشلل شبه التام لمؤسسات الدولة. وتحوم جل هذه المبادرات حول إقامة حوار وطني يضم مختلف الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية للوصول إلى توافق حول تشخيص مختلف المشاكل القائمة والحلول الملائمة

المنهج يبدو في ظاهره سليما، خاصّة وأنه يعتمد على تجربة ناجحة أدّت سنة 2013 إلى حل المشكلة السياسية التي كادت آنذاك أن تعصف بالبلاد والتي نتج عنها إسناد جائزة نوبل للسلام للرباعي الذي رعى الحوار الوطني

نفس الدواء يُمكن مبدئيّا أن يُعالج نفس المرض. ولكن، هل نحن أمام نفس الوضع الذي كان سائدا سنة 2013 ؟ أبدا
رئاسة الجمهورية والحكومة كانتا آنذاك مُنبثقتين عن المجلس التأسيسي الذي تمّ انتخابه سنة 2011 « للقيام بصياغة دستور جديد للبلاد خلال سنة واحدة » حسب المرسوم الرئاسي الذي دعا المواطنين لانتخاب المجلس التأسيسي. وفي سنة 2013، كان المجلس قد مضى على انتخابه أكثر من سنة دون أن يتوصّل إلى صياغة دستور جديد، ممّا أفقد شرعيته ومشروعيته، وأفقد بالتالي شرعية رئيس الجمهورية والحكومة. وأمام إصرار هذه المؤسسات على البقاء رغم فقدانها للشرعية، انتفض الشعب ضدّها في اعتصام الرحيل الذي نتج عنه تنظيم حوار وطني وإقالة الحكومة وتعويضها بحكومة مؤقته تقتصر مهمتها على تصريف الأعمال وتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة

أما الوضع اليوم فهو يختلف تماما عن وضع 2013 في جانبين. ذلك أن مؤسسات الدولة هي اليوم شرعية ومُنتخبة، ولا يُمكن مبدئيا إزاحتها بشكل قانوني ودستوري، ومن ناحية ثانية، يتّسم الوضع الحالي بأزمات خانقة، مُتعدّدة ومُتنوّعة، تشمل كل القطاعات وكل الجهات. أي أننا إزاء مؤسسات شرعية وفاشلة في آن واحد

الحلول لإزاحة الفاشلين رغم شرعيّتهم تتطلّب حنكة سياسيّة كبيرة تتجاوز في اعتقادي الدعوة إلى حوار وطني لا أظن أنه سيأتي بالنتيجة المرجوّة. ذلك أن الحوار الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، وأيّده ظاهريّا رئيس الجمهورية بعد تردد دام أكثر من شهر، سيُواجه العديد من التعقيدات والعثّرات التي ستُؤدّي به إلى الفشل، أذكر منها 

أولا : عدم الاتفاق بين الاتحاد والرئيس بخصوص طبيعة الحوار والأطراف التي ستُدعى إليه. ففي حين يطلب الاتحاد تشريك كل الأحزاب ما عدا الأحزاب الدينية التكفيرية ويقصد بها ائتلاف الكرامة، يغضّ الرئيس الطرف عن تلك الأحزاب ويستثني في المقابل الأحزاب الفاسدة ويقصد بها حزب « قلب تونس ». والاختياران تشوبهما نقاط ضعف واضحة. فائتلاف الكرامة ليس سوى ذراعا من أذرع حركة النهضة، وإقصاؤه لن يُفضي إلى إقصاء الإسلام السياسي المُتطرّف طالما أن حركة النهضة، الحركة الأم للإسلام السياسية، ستكون طرفا في الحوار. كما أن إقصاء حزب « قلب تونس » لا يجوز منطقيا وقانونيّا باعتبار أن القضاء لم يقل بعدُ كلمته في قضية شبهة الفساد المُتعلّقة برئيسه. وحتى إن أدانت المحكمة نبيل القروي، فإن الإدانة لا تخصّ إلى شخص رئيس الحزب وليس الحزب برمته

ثانيا : يُصرّح الرئيس بأن الحوار سيشمل شباب الجهات، وهو منحى شعبويّ لا طائل من ورائه. فاستشارة الشباب في الجهات عمليّة صعبة وحسّاسة ستتطلّب أشهرا عديدة والحال أن الوضع العام في البلاد مُتأزّم بشكل يجعل الحلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عاجلة إلى أبعد الحدود ولا يُمكن أن تنتظر تنظيم حوار عام مع الشباب ومع الجهات. علاوة عن ذلك، فإن المشاكل القائمة عويصة جدا قد تستعصي حتى على العديد من الخبراء في مجالي الاقتصاد والقانون الدستوري. فهل سنُعوّل على شباب الجهات لإيجاد الحلول لها ؟

ثالثا : ومهما يكن من أمر، فإن البحث عن حلول للأزمة مع المُتسبّبين فيها ومع الذين لا يُمكن لهم الانتعاش إلّا في الأوضاع المُتأزّمة والفوضويّة لن يُؤدّي إلا إلى الإبقاء عليها

رابعا : هناك أحزاب، رغم تمثيليتها القويّة في البرلمان، وعلاوة عن مسؤوليتها المباشرة في تردّي الأوضاع، هي الآن في تراجع كبير من حيث شعبيتها ومصداقيتها. وتشريكها اليوم في الحوار الوطني يُقدّم لها طوق النجاة لاستعادة أنفاسها وللحفاظ على مواقعها لتواصل سياستها الفاشلة التي جُرّبت وخرّبت البلاد

الوضع العام في تونس اليوم يتطلّب إذن رؤية تتجاوز الحلول الترقيعيّة أو التي تُبقي الأزمة على حالها بما يُؤدّي إلى تعقيدها

والحل المنطقي والجذري الوحيد يتمثّل في تطبيق القانون والكفّ عن سياسة الإفلات من العقاب، وذلك بالتطبيق الحرفي لمخرجات تقرير محكمة المحاسبات الذي سيُؤدّي حتما إلى نزع صفة النائب عن حوالي نصف نواب البرلمان الحالي وتنظيم انتخابات جزئية لملء الفراغ الذي سيترتّب عن ذلك

هذا الإجراء يُمكّن من إعادة توزيع الأوراق في البرلمان بما يتناسب مع مستوى الشعبية الحالية للأحزاب، والتي تغيّرت كثيرا منذ السنة الماضية، وبالتالي يُصبح لدينا برلمان أكثر تمثيلية يُمكن له القيام بمراجعات جذرية للدستور وللقانون الانتخابي ويُمكن له أن يُفرز حكومة ذات كفاءة وبرنامج واضح للقيام بالإصلاحات الضرورية والعاجلة

منير الشرفي