أيها الفاسدون، خُصومكم في خدمتكم

من أول الدروس التي تلقّيتها في مادّة الجبر، تلك القاعدة التي تقول بأن نتيجة عملية الضرب بين عددين يحملان نفس العلامة (إيجابية +) أو (سلبية -) تكون إيجابية (+)، وأن نتيجة الضرب بين عددين يحملان علامتين مختلفتين تكون سلبية (-). وحتى نحفظ القاعدة، علّمنا الأستاذ المقولة : صديق صديقي صديق، وعدوّ عدوّي صديق، وعدوّ صديقي عدوّ، وصديق عدوّي عدوّ

هذه القاعدة الذهبية التي يُفترض أن يأخذ بها الناس في حياتهم اليومية، من النادر جدا أن نجد من يُطبّقها، خاصة في مجال العلاقات السياسية، ما عدا الوطنيين المحنّكين الذين يضعون المصلحة العامّة فوق الاعتبارات الشخصية والمصلحة الاستراتيجية قبل المصلحة الآنيّة

أذكر هنا مثاليْن شهيريْن مُتناقضيْن

الأول يدلّ على غباء من تنكّر لهذه القاعدة، وهي تتمثّل في العداء الصارخ الذي أظهرته الصين الشعبية الشيوعية ضد الاتحاد السوفياتي الشيوعي طيلة عقود، رغم أنهما قوّتان شيوعيّتان يُفترض أن يكونا صديقيْن حليفيْن، لو وحّدا جهودهما ضد الامبريالية الأمريكية، عدوّهما المشترك، لما تمكّنت الولايات المتحدة من السيطرة الكلية على العالم. ولقد كان ماو تسي تونغ يعتبر الولايات المتحدة عدوّا ثانويّا في حين أن الاتحاد السوفياتي بزعامة بريجنيف عدوّ أساسي، بتعلّة أن موسكو حرّفت الماركسية اللينينية القحّة. كل ذلك كان في الواقع من أجل الصراع على زعامة العالم الشيوعي. فما كان إلّا أن ضعفت الدولتان الشيوعيّتان واستقوت عليهما وعلى العالم الولايات المتحدة الأمريكية. ماو تسي تونغ لم يكن يعرف القاعدة التي تقول « عدو عدوّك صديق »

المثال الثاني يخصّ من حفظ تلك القاعدة وطبّقها، وأعني الرئيس المرحوم الحبيب بورقيبة

بورقيبة كان يكره الشيوعيين. ولقد قبل عن مضض وجود حزبهم في الساحة السياسية خلال السنوات الأولى من الاستقلال، رغم نضالهم المسكوت عنه ضد الاستعمار. وبمناسبة محاولة الانقلاب العسكري (ديسمبر 1962-جانفي1963)، قرّر بورقيبة إخماد كل الأصوات المعارضة. وكانت فرصة لتجميد نشاط الحزب الشيوعي ومنع صحيفته. إلّا أنه بعد 18 سنة، وتحديدا سنة 1981، وحالما بلغه خبر الندوة الصحفية التي نظّمها راشد الغوشي، صحبة عبد الفتاح مورو واحميدة النيفر، للإعلان عن تأسيس « حركة الاتجاه الإسلامي »، حتى دعا المرحوم محمد حرمل، الأمين العام للحزب الشيوعي الذي كان يعمل آنذاك في السريّة، ليُعلمه بأنه قرّر رفع الحضر عن الحزب وعن صحيفته قائلا له « برّه اخدم على روحك، ربي يعينك ». بورقيبة كان يحفظ قاعدة « عدوّ عدوّك صديقك ». ولقد رأى خطر الإسلام السياسي قادما، ورأى أن زمن الخلافات مع الخصوم الثانويّين أمام خصم خطير مُشترك قد ولّى، وأن وقت توحيد جهود القوى التقدّمية قد حان

في تونس اليوم، القاعدة الأكثر انتشارا في عالم السياسة هي « عدوّك الأول هو صديقك ». لا لشيء، سوى لأنه منافسك في الاتجاه الذي تسير فيه. و »الصداقة » هنا نعني بها الدفاع عن نفس المبادئ والانتماء إلى نفس العائلة الفكرية. فنرى مثلا حزبا سياسيا أو كتلة نيابيّة تُعارض مبدئيّا مشروع قانون أو مشروع لائحة معروضة على المجلس، ثمّ تُصوّت لفائدتها، أي لفائدة عدوّتها، وذلك حتى لا يُقال عنها بأنها صوّتت في اتّجاه كتلة معارضة أخرى، وبالتالي دعّمت تلك الكتلة المُنافسة. إذ أن دعم الخصم السياسي أهون، لدى هؤلاء، من الاصطفاف مع من يُفترض أن يكون حليفا، تماما كما فعل ماو تسي تونغ مع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. ولنا في ذلك أمثلة عديدة، لعلّ أبرزها الرفض المبدئي لأغلب الكتل وأغلب النواب لاتّفاقية الاستعمار القطري، ورفضهم في نفس الوقت التصويت ضدّها حتى لا يُقال إنّهم اصطفّوا وراء عبير موسي في ذلك الموقف. أي أن بيع البلاد للأجانب أهون عليهم من « خطر » تقدّم منافس على زعامة العائلة الفكرية. والأغرب من ذلك ما أتاه بعضهم من أن معارضة الحزب الدستوري الحر لا طائل من ورائها نظرا إلى أن كل قوانين النهضة تمرّ رغما عنها. ولا أحد تساءل ماذا لو عارض المعارضون المُفترضون دون حسابات صبيانيّة؟ فمعارضتنا تُعارض أولا الصديق المنافس قبل الخصم الموضوعي

تلك هي مشكلتنا الأساسية. فالصراع القائم والمُحتدّ بين مكوّنات مجتمعنا التي تُسوّق في العلن لخطاب التقدميّة والحداثة هو الفيتامين الأول الذي تنتعش به قوى التخلّف والرجعية، وهو الذي يحول اليوم دون سقوط النظام الفاسد القائم

فالجميع اليوم يصيح بأعلى صوته بأن الدولة انهارت وأن المسؤولين على مختلف مؤسسات البلاد لا يُرجى منهم خيرا. لكن أغلبهم لا يقبل بالتحرّك إلا إذا أزاح المنافسين قبل إزاحة هؤلاء المسؤولين الذين نراهم على الأرائك مُتّكئين في راحة وأمان

بقلم منير الشرفي