في الإطلالات الإعلامية الأخيرة لراشد الغنوشي.. خطاب المظلومية.. خطاب الهزيمة

تواتر الظهور الإعلامي لرئيس تنظيم النهضة راشد الغنوشي هذه الايام في المحامل الإعلامية الأجنبية بالخصوص، التي يجري بعضها وراء الإخبار حقيقة، وبعضها الآخر – انسجاما مع الخط التحريري – من أجل خدمة الأهداف المشتركة بين الشيخ وجماعات الإسلام السياسي والدول الراعية لهذه المحامل تحت يافطة حرية التعبير والرأي والرأي الآخر فظهر الشيخ مرارا وتكرارا في الجزيرة والجزيرة مباشر والتلفزيون العربي وقناة الزيتونة وصحيفة القدس العربي وآخر المنابر المهمّة قناة فرانس 24

صحيح أن السلطة في تونس منحت الشيخ فرصة النجومية الإعلامية هذه الأيام ونحن في أوج الأزمة السياسية عبر دعوته للتحقيق معه في قضايا متصلة بتبييض الأموال وتلقي أموال من الخارج عبر جمعية مدنية وتركه في حالة سراح، في انتظار ربما تحريك قضايا أخرى ينتظرها الرأي العام الداخلي والخارجي متصلة بما يعرف بـ «الجهاز السري» والعلاقة بملفات الإرهاب والتسفير والاغتيالات وغيرها، غير أن خطاب راشد الغنوشي لم يعد في بورصة السياسة إن جاز القول، بتلك القوة والصلابة التي كان عليها زمن الاضطلاع المباشر بأعباء الحكم ورئاسة مجلس النواب والتحكم في الحكومة ورسم مربع تحرك رئيس الجمهورية

وكما سبق أن كتبنا، فإن تراجع الوزن السياسي لراشد الغنوشي فيه ما هو مرتبط بشخصه وما هو نتيجة مباشرة لما حلّ بالتنظيم في تونس وبفروع وتجارب الإسلام السياسي في المنطقة والعالم

صحيح أن للجماعة الإسلامية في تونس خزانها الانتخابي وجمهورها المنضبط إلى أبعد الحدود، وواهم من يعتبر أن النهضة انتهت في تونس حتى وإن تحولت إلى نهضات، لكنها لم تعد بتلك «الشراسة الإيجابية» و«الروح الجهادية» وتلك الجرأة على طرح نفسها الرقم الوحيد والأصعب في المشهد التونسي وأمام الخارج، ويتذكر الجميع كيف كان السفراء الأجانب وحتى ضيوف البلاد الرسميين لا يتأخرون في «الحجّ» إلى مقر الحركة ومقابلة رئيسها دون أن ننسى بعض «مثقفينا» و«نخبنا» وحتى ساستنا

لقد اهترأت النهضة بسرعة لا تضاهي سرعة اهتراء أحزاب أخرى بطبيعة الحال، وخصوصا تلك التي شاركتها الحكم مثل النداء والمؤتمر والتكتل وقلب تونس وتحيا تونس والحر، وتُبرز معدلات ونسب التصويت لها في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة بين 2011 و2019 كيف كان السقوط تدريجيا، والأهم من ذلك أن القيادة الممثلة في «الشيخ» وحاشيته كانت على بيّنة من هذه التهرئة «قطرة قطرة»، ومع ذلك لم تحرّك ساكنا بل أصرّت على الاستمرار في نفس النهج الانفرادي الذي أدى إلى قفز عديد الإخوة من القارب قبل غرقه

ليس ذلك فحسب ألحّت هذه القيادة المتنفّذة التي يصفها «المستقيلون في العلن» من النهضة بغير الديمقراطية، على مواصلة المسيرة والمراهنة على الاستفادة من مناخ وتداعيات الأزمة المركّبة التي تعيشها بلادنا والاستثمار في تعرض الشيخ بالذات للمساءلة القانونية علما وأن تقدّمه في السنّ قد يخفّف عليه ويعفيه من بعض الإحراج وبعض المعاملات التي يتعرض إليها آليا مشتبه بهم آخرون مثله بحكم عامل السنّ

ما الذي أوصل النهضة في النهاية إلى هذه الحال ؟

عناصر خارجية إقليمية ودولية بالتأكيد، لكن أيضا أخطاء الداخل النهضاوي وسلوك رئيسها ومؤسّسها الذي هو بمثابة المرشد الذي لا يُردّ له قرار أو هوى. والنهضة كنموذج لجماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وهو النموذج الأنجح والأقوى إلى اليوم رغم ما حلّ بها وبه، عوّدتنا بتنوع تكتيكاتها وتعدّد أساليب عملها وقدرتها على التعاطي مع الأزمات بدهاء مكّنها من تخفيف وقع بعض هذه الأزمات وحتى تأجيل بعضها الآخر مرة بالتنازل الظاهري والقبول بالتعامل مع خصوم الأمس والتطبيع معهم كما حصل مثلا مع الدساترة عبر غطاء حركة نداء تونس أو حتى عند دعم قيس سعيد في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية في 2019 والعمل معه حتى 25 جويلية 2021، وبالتقية أيضا وهو الأسلوب الأكثر انتشارا في سلوك الإسلاميين الذين لا يجدون حرجا في اختراق الأحزاب والمنظمات والعائلات السياسية والفكرية ومؤسسات الدولة بما فيها الأمن والجيش كما فعلوا في تسعينات القرن الماضي

وخلال حكمهم في تونس وغيرها من الدول العربية وحتى قبل الحكم وبعده أتقن الإسلاميون البكاء و«المظلومية» ونجحوا في تقديم أنفسهم على كونهم ضحايا يخافون الله وهم حمائم السلام التي يضطهدها النظام ويعمل اليسار والعلمانيون على استئصالها. ويكفي أن نتوقف عند إجابات راشد الغنوشي على أسئلة الصحافيين وآخرهم محاوره من قناة فرانس 24 مساء الخميس 4 أوت الجاري، لنكتشف أنها متطابقة مع بيانات التنظيم الأخيرة وفيها نبرة مرتفعة من المظلومية واجتهاد لتقديم النفس ضحية متطوعة من أجل الديمقراطية وكأن الديمقراطية بكل أركانها السياسية والاجتماعية كانت قائمة زمن حكم الإسلاميين

إن خطاب الغنوشي في تقديرنا، سواء في التلفزة الفرنسية أو في بقية المحامل الإعلامية المحلية والأجنبية هو خطاب المظلومية وخطاب الهزيمة والحال أن النزاهة السياسية تقتضي من «الخاسر» في الحراك السياسي الاعتراف بالهزيمة وتقديم النقد الذاتي والاعتذار، أجل الاعتذار لأبناء التنظيم أولا ولعموم الشعب التونسي ثانيا وحتى للخارج ثالثا لأن أذى وأخطاء الجماعة الإسلامية تجاوز حدود الوطن

إن تقديم الغنوشي لنفسه ضحية لـ «المحاكمات الإعلامية» والزعم بأن حركته «مستهدفة» وهي «أهم مقوم من مقومات النضال ضد التطرف والإرهاب» والقول بأن «أطرافا سياسية معادية للنهضة فشلت أمامها في صناديق الاقتراع تفتعل سيناريوهات إرهاب وتبييض أموال هروبا من ساحة المنافسة السياسية» لا نخال أنها مقولات تقنع ابناء الاسلاميين فما بالك بخصومهم. كذلك استباق الأمور والتكهن بأن «حلّ حزب حركة النهضة.. في ظل الديكتاتورية» وارد وكذلك اقصاؤها من الانتخابات القادمة وارد، وهي وإن كانت بالفعل فرضيات واردة وبقوة، فهي ليست بالضرورة نتيجة ديمقراطية هذا التنظيم وأثره ورصيده في التجربة الديمقراطية ببلادنا التي يظل الإسلام السياسي فيها تعبيرا عن الثورة المضادة إلى جانب قوى أخرى يعرفها الشعب التونسي

بقلم: مراد علالة