لا تستخدم عبارة (المناولة) إلا في تونس، أما أغلب الدول العربية فتستخدم عبارة (المقاولة من الباطن) وهي تعبر بدقة عن المعنى الذي نجده في العبارة الفرنسية « صو تريتانس » . وتونس هي الدولة الوحيدة في العالم تقريبا التي اعتبرت هذه الآلية جريمة ينبغي مكافحتها وشكلا من أشكال العبودية يتعين القضاء عليها، وعلاوة على اعتبارهم (تجريم المناولة) انتصارا سياسيا للرئيس، توشك بعض الأصوات الموالية من فرط فرحتها بهذا القانون أن تقترح يوم المصادقة عليه عيدا وطنيا
توجد عدة أمثلة تبرر اللجوء إلى (المقاولة من الباطن) فأعمال صيانة الشبكة الهاتفية مثلا تقوم بها شركات متعاقدة مع شركة الاتصالات، وكذلك أعمال الصيانة الخاصة بالمعدات الطبية الدقيقة تقوم بها شركات متعاقدة مع المستشفيات والمصحات، وهذه الأمثلة لا تطرح إشكالات لأنها تنتدب اليد العاملة المختصة والمؤهلة وفق حاجيات تضبطها العقود طويلة المدى وحاجيات السوق المعروفة
أما ارتباط (المقاولة من الباطن) بالتشغيل الهش وهضم حقوق العمال فنجده بكثرة في المجالات التي تقل فيها الحاجة إلى العمالة المدربة والمختصة، رغم مزاياها العديدة، فعمال النظافة الذين يعملون في شركات متعاقدة مع البلديات أفضل أداء من غيرهم، والمؤسسة العمومية التي تتعاقد مع شركة خاصة للقيام بأعمال التنظيف والحراسة ستتمتع بموجب كراس الشروط الذي يربطها بها بنفس الجودة كامل أيام السنة، بينما لا يمكنها ذلك لو كانت تتعامل مع يد عاملة منتدبة لديها بسبب الإجازات
لا يمكن التغاضي عن مسؤولية الإدارة العمومية في تسهيل انحراف (المقاولة من الباطن) عن مقاصدها الأصلية، لأن السلطة لها أدوات حاسمة تجعلها قادرة على إصلاح هذه الآلية بدل إلغائها، فحقوق العمال كاملة يمكن أن تضمن في كراسات الشروط، ويمكن أن يؤدي الإخلال بها إلى إبطال التعاقد أصلا! إن سلطة الإشراف بما تمتلكه من صلاحية لإسناد سوق عمل طويلة المدى إلى شركة خاصة يمكنها أن تفرض شروط الدولة الاجتماعية لكن الذي لا يقال في هذا النطاق أن الفساد في الصفقات العمومية هو أحد أهم أسباب انحراف المناولة فضلا عن أن عدم إيفاء المؤسسة العمومية بتعهداتها المالية إزاء الشركات التي تعاقدت معها هو من أهم عوامل التشغيل الهش وهضم حقوق العمال
بصفة عامة، تعتبر (المقاولة من الباطن) أحد أبرز آليات اقتصاد السوق ومظهرا بارزا من مظاهر العولمة، فقطع غيار الطائرات التي تصنع في الولايات المتحدة أو فرنسا كثير منها يصنع في تونس والمغرب، وكذلك السيارات الألمانية. والاقتصاديات الضعيفة تستفيد من هذه الآلية التي يستخدمها الغرب لفرض قيمه وثقافته، وقد أدى تحقيق صحفي لقناة فرنسية إلى إحراج كبرى شركات الهاتف المحمول في الولايات المتحدة حين كشف أن الشركات المتعاقدة معها في الصين تشغل الأطفال الصغار في الدهاليز والأقبية
باختصار، كان يمكن إصلاح (المقاولة من الباطن) بفرض إجراءات ترتيبية ورقابية تجعل سلطة الإشراف مسؤولة بشكل مباشر عن ضمان حقوق العمال في الانتداب والترسيم والحماية الاجتماعية، وكان يمكن وضع الإصبع على مكمن الداء بتعرية الغطاء عن الجهاز البيروقراطي للدولة وتجريده من الأدوات التي جعلته ضليعا في تعميم الفساد وحماية المفسدين، قبل المرور بقوة إلى تجريم المناولة وتسويق القوانين الزجرية بوصفها حلولا لمعضلات التنمية وقضايا المجتمع، وهي فكرة لا تحتاج إلا إلى قليل من الوقت ليكتشف البسطاء من الناس أنها مجرد وهم لن ينتفعوا منه بشيء
بقلم عامر بوعزة