« الإسلام دينها »

روى لي أحد الأصدقاء بأن المرحوم مصطفى الفيلالي، أحد الأعضاء الناشطين في المجلس القومي التأسيسي (1956-1959) أسرّ له بأن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة هو الذي حرّر بنفسه الفصل الأول من الدستور الأول، والذي تمّ تبنّيه من قبل المجلس التأسيسي الثاني في دستور 2014. وهو الفصل القائل بأن : تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها

ما يُعرف عن بورقيبة هو أنه كان رجلا علمانيّا ومُتشبّعا بالحضارة الغربية حيث يتم الفصل، بشكل أو بآخر، بين الدين والسياسة. وكان مُعجبا بشجاعة مصطفى كمال أتاتورك الذي نجح في التنصيص على أن تركيا دولة لائكيه، كما كان مُنبهرا بالنظام الفرنسي اللائكي حيث تُمنع كل مظاهر التديّن في المؤسسات العمومية، مثل الإدارة والمدارس…
ذلك أن الشعوب المُتقدّمة، في جميع أنحاء العالم، هي التي نجحت في فصل الدين عن السياسة، في حين بقيت كافة الدول التي تُعلن رسميّا عن ارتباط الدولة والسياسة الرسمية بالدين تُعاني التخلف السياسي والثقافي والاقتصادي. وما رفاهة بعض البلدان الإسلامية النفطية إلّا غطاء يُخفي عقليات مُتحجّرة

غير أن بورقيبة، الذي كان واعيا بالعقليات السائدة في المجتمع التونسي إبان الاستقلال، خيّر تجنّب صراع قد يكون حادّا مع قوى الجذب إلى الوراء، وأهدى ذلك الفصل الغامض لشيوخ الزيتونة وعامّة المواطنين الذين كانوا في معظمهم في تلك الفترة غير مُتعلّمين وغير مُثقّفين، على أن يُؤسس للدولة العلمانية الحديثة بالفعل وليس بالنصوص. وبعد إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي كانت ثوريّة في ذلك العهد رغم اعتماد أغلب فصولها على الشريعة، وجّه اهتمامه إلى تثقيف الشعب بواسطة نشر التعليم في كافة مناطق البلاد، صحبة محمود المسعدي، اعتمادا على برامج ومناهج تفتح العقول على اللغات والثقافات المختلفة، وعلى العلوم الإنسانية والعلوم الصحيحة، بعيدا عن المرجعيات الدينية، وخاصة منها المُتطرّفة والرجعية

مع شيخوخة بورقيبة وظهور الإسلام السياسي المتطرف منذ السبعينات، أصبحت الطريق نحو إقامة الدولة المدنية العلمانية الحديثة مليئة بالأشواك والمخاطر. بل يُمكن القول بأنه تمّ التراجع عن الكثير من المكتسبات المدنية جرّاء الضغوطات الإخوانية. فأُنشئت وزارة للشؤون الدينية، وتمّ غلق المقاهي والمطاعم خلال شهر رمضان، بحماس مُبالغ فيه أحيانا إذ وصل الأمر لمحاكمة المفطرين في بعض الحالات، وتم التراجع عن الاعتماد على الحساب الفلكي لتحديد دخول الأشهر القمرية بالعودة إلى الطرق المتخلّفة المعتمدة على رؤية الهلال

اليوم، وقد تمّ رسميّا ابعاد الحزب الإخواني من السلطة، وبقطع النظر عن الطريقة التي تمّ بها ذلك، لا بدّ من تظافر الجهود من أجل إعادة البلاد إلى الطريق المُؤدية إلى وضع ركائز الدولة المدنية الحديثة، على ألّا يغيب عنّا أن هذه الطريق وعرة وطويلة وحسّاسة

فالعقلية السائدة في تونس، والتي تجنّب بورقيبة التصادم معها إثر الاستقلال، قد ازدادت انغلاقا وتحجّرا بفعل الحركات والجمعيات الإسلامويّة طيلة العقود الماضية. فبعد أن كنّا نتعايش سلميّا، مسلمين ويهود ولا دينيين، انتشرت عقلية تكفير الآخر، إلى أن فُتح الباب على مصراعيه أمام سياسة العنف والإرهاب… والآخر عند المتزمتين ليس المُتديّن بغير الإسلام واللاديني فقط، وإنما أيضا المسلم على غير طريقتهم. وأذكر في هذا الصدد موقف أحدهم، وهو معروف بميله إلى حزب المنصف المرزوقي، حين قال : إذا مرّ القانون الذي اقترحه الباجي قائد السبسي حول الميراث، أصوّت في الانتخابات القادمة للنهضة. لا اجتهاد في النص الواضح

« لا اجتهاد في النص الواضح » هي نفس العبارة التي استعملها الرئيس سعيّد بخصوص الميراث. غير أن الأول مواطن عادي، والثاني رئيس الجمهورية الذي أقسم على احترام الدستور الذي ينصّ على مدنية الدولة. وهنا تكمن المُعضلة

حذف عبارة « الإسلام دينها » من الفصل الأول للدستور الذي أعلن عنه الأستاذ بلعيد يُمكن مبدئيّا اعتباره خطوة هامّة جدا في طريق إرساء قواعد الدولة المدنية في حدّ ذاتها. إلّا أنه يجب ألّا يغيب عنّا أن الرئيس سعيد عبّر عن نفس الفكرة أكثر من مرّة، قبل انتخابه رئيسا وبعده، حيث قال بأنه لا معنى أن يكون للدولة دين، فالدولة لا تُصلّي ولا تصوم ولا تدخل الجنة ولا النار. وهو كلام صائب. لكن، عندما تأتي الفكرة من سعيّد، يجب ألّا يخفى عنّا أن هذه الفكرة هي من قبيل القراءة الفلسفية والنظرية للقانون ولا تُفيد بالضرورة الرغبة في « تمدين » الدولة. إذ يجب ألّا ننسى أن الرئيس سعيّد ليس فقط ضد « الاجتهاد في النص الديني » فحسب، وإنما هو مع التشبّث به. ويكفي في هذا الصدد العودة إلى خطاباته التي يُكرّر فيها أنه « مسؤول أمام الله » أولا في حين أنه مُنتخب من طرف المواطنين، والتي ما انفكّ يُعيد فيها على مسامعنا تمسّكه بمنهج الخليفة « الفاروق ». أما موقفه الأكثر خطورة فهو رفضه للفصل 6 من الدستور الذي ينصّ على حرية الضمير والمعتقد، قائلا بأن هذا الفصل لا يُمكن تطبيقه. ونبقى في انتظار النص النهائي للدستور الجديد الذي سيُعرض على الاستفتاء. فهل سيُحذف مثلا شرط « المسلم » في الترشّح لرئاسة الجمهورية، في حين أنه من بين المواطنين، أبا عن جدّ، من هم من غير المسلمين؟

المرور إلى تقنين مدنية الدولة يمرّ بالأساس، في اعتقادي، عبر مراجعة كافة فصول الدستور الأخرى ذات المرجعية الدينية وكافة القوانين، وخاصّة منها المجلة الجزائية ومجلة الأحوال الشخصية، في كل ما يتعلّق بالاعتماد على منطق الشريعة في المعاملات بين المواطنين. ولكنّه يمرّ بالخصوص عبر حملة توعويّة بيداغوجية واسعة، في وسائل الإعلام والمنابر الثقافية والمناهج التعليمية، حملة تُعيد للمواطنين روح المواطنة وتدرّبهم على التعايش مع المختلف دون عنف، على أساس أن العلاقة بين المواطنين هي علاقة مدنيّة، وأما العلاقة الدينية فهي بين الخالق والمخلوق

وعليه، فإن الفكرة القائلة بأن الدولة لا دين لها هي فكرة صحيحة ووجيهة. وحتى لا نُلبس الجسد قبّعة جميلة ونُبقي على باقي الهندام الرث، من الضروري أن تكون هذه الخطوة مصحوبة، في ذات الوقت، بغربلة دقيقة لبقية فصول الدستور وكافة القوانين من كل الإحالات على الشريعة، ومصحوبة بالخصوص بالحملة التوعويّة البيداغوجية للإقناع بأن الديمقراطية والتقدّم لا يتحقّقان إلّا في ظل الدولة العلمانية الحقّة

بقلم منير الشرفي