على وجه الصدفة، وقعتُ مساء الجمعة في منتصف اللّيل إلاّ قليلا على السيّدة وزيرة الثقافة التونسيّة وهي بصدد تكريم ثلّة من الشخصيات الفنّية الوطنيّة في قاعة فسيحة شبه فارغة من مدينة الثقافة. أنا لم أكن حاضرا ساعة إعداد قائمة المكرَّمين، و لكنّي واثق أنّ الطاقم الوزاري كان مستحضرا قولة عليّ الدّوعاجي الشهيرة « عاش يتمنّى في عنبة مات علقولو عنقود، ما يعيش فنان الغلبة إلاّ من تحت اللّحود ». و أنا واثق أنّ هذا التّكريم جاء على عجلة و تحت ضغوط عزرائيل الذي قضى على بعض المكرّمين فجاء ورثتهم من أبنائهم و زوجاتهم يرفعون ورقة مطبوعة و لكنّها موقّعة دون شكّ بيد الوزيرة الكريمة و يرفعون زهورا ويرفعون قطعة من البلور عليها كتابة و صورة ربّما. و حتّى لا يكون التكريم إلى التأبين أقرب فقد كرّمت الوزارة من كان على قائمة الاحتياط و تأجيل التنفيذ فرُفع إلى المنصّة من كان على كرسيّ العجّز و رُفع إلى المنصّة من كان مسنود الخطى متعثّر المشية و اللّسان و لم يكن من السّالمين إلاّ عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة
و حتّى تقدّروا وجعي فإنّي أؤكّد لكم أنّي أحبّ هؤلاء الفنّانين جميعا و إنّي أرجو للأحياء منهم من كلّ قلبي السلامة و الصحّة و طول العمر، و لكنّ أب طه حسين الضرير عندما تعثّر صبيّه على مائدة الطعام قال له في صوت هادئ حزين : ما هكذا تؤخذ اللقمة يابنيّ و أمّا أمّه فأجهشت بالبكاء و أمّا هو فلم يعرف كيف قضّى ليلته
ما هكذا نكرّم مبدعينا. الجحود ضارب أطنابه و أهل العلم و الفنّ في بلادنا ينخرهم الإحساس بالغبن و الوحدة و التجاهل و النّسيان و استوى في بلادنا الذين يعلمون و الذين لا يعلمون و استوى الذين يعملون و الذين لا يعملون، بل إنّ الموازين قد انقلبت و ضربت عدوى الفساد و الحساب أطنابها في سوق الذوق و سوق النقد و الإنصاف و عمّ توزيع مطبوعات التقدير الزائفة و الصور التذكاريّة « المفيّسة » و غاب التقدير الصحيح للكفاءات التونسيّة التي لا تريد عيشا كارتونيّا مناسباتيّا احتفاليّا متبخّرا بل تريد أن تكون بما اكتسبته من الخبرة و المهارة في اختصاصها، مرجعا مساهما في البناء و خليّة منخرطة حتّى آخر رمق في الدورة الدّمويّة للفنون و العلوم بدلا من أن تتحوّل إلى خليّة متقاعدة يعدّ عليها أهلها أنفاسها و يعدّون لها أكفانها و تأبينها. و ليس الصبح بقريب
الدكتور الهادي جطلاوي