يكون عيد الأمهات أنبل عندما ننهي العنف المسلّط على النساء

أيتها العاملات الكادحات الصبورات… تمنحن دون حساب وتهبن دون انتظار مقابل… من أيديكنّ تخضرّ الحقول وتطعم الأفواه وتشبع البطون وتكسى الأجساد…بعرقكن ينجح الأبناء ويحلقون إلى آفاق أخرى …لا شيء في هذا البلد يستحق التوقير أكثر من عرقكن ولا أحد فيها أجدر بالاحترام منكن. فلمَ كل هذا العنف الذي تتحمّلن ؟ ألا يكفي عنف واقع قد يدهسكن تحت عجلات شاحنة لا تصلح لنقل الدواب؟ ألا يكفي عنف مستثمر وملاك ما زال يعتقد أن ما يجود به عليكن من بضعة دنانير مزية منه؟ ألا يكفي عنف تصورات مازالت تؤمن بأن أخاك الذي يفضل قضاء يومه بين النوم والمقاهي على أن يعمل في الحقول والمصانع بدعوى أن المقابل دون مستوى ما يطلب هو أفضل منك لمجرد كونه ذكرا، وأن زوجك الذي يفضل أن يعطل نفسه عن العمل على أن يقبل بما تقبلين به أنت هو كذلك أفضل منك لمجرد كونه ذكرا؟

في بلادنا نحتفل بعيد المرأة وعيد الأم وعيد الزوجة وعيد الحب وأسبوع الأخت وأسبوع الصديقة … نحتفل ونمطر هواتف بعضنا البعض بالصور والعبارات الجاهزة ونحن فرحون مسرورون

في بلادنا أحدثت منذ سنوات إحدى حكوماتنا السريعة الموقرة مرصدا وطنيا لمقاومة العنف ضدّ النساء، وأحدثت مراكز إنصات للنساء المعنفات

في بلادنا جمعيات وجمعيات تحصل من المنظمات الإقليمية والدولية « المعطاء » على أموال وتمويلات لا يعلم حقيقتها إلا الله، وقد يعلم بعضها بنكنا المركزي، حتى تقاوم العنف المسلط على النساء

في بلادنا مجلة للأحوال الشخصية منحت النساء من الحقوق أكثر مما يطالبن ، نفاخر بها ونفتخر أمام العرب والمسلمين وفي « المحافل الدولية » حتى يقال عنا بلد احترام حقوق النساء

في بلادنا قانون، قانون عدد 58لسنة 2017، يقاوم العنف ضد المرأة ونفتخر بأنه من أكثر القوانين تطورا لكونه يستجيب للمعايير الدولية، ونفاخر به الدول العربية والإسلامية حيث تقمع النساء

ولكن في بلادي ما لا يقل عن 74 بالمائة من النساء التونسيات يتعرضن إلى العنف مرة على الأقل في حياتهن. في بلادي يحدث يوميا أن تتعرض الأمهات إلى أشكال من العنف من الأبناء والبنات ، وفيها تضاعف العنف ضد النساء خلال السنوات الثلاث الأخيرة ب 5،7 مرات عما كان عليه قبلها، ويقال إن هذا بسبب جائحة الكورونا قاتلها الله!! أما « رجالنا » فأبرياء ويحترمون النساء ويقدرونهن، ويجعلون لهن أعيادا. في تونس، وخلال الفترة الأخيرة، يسجل أسبوعيا ما يزيد عن 40 حادث عنف شديد ضد النساء يصل إلى القتل أحيانا وإلى إحداث إعاقات في المعنّفات أحيانا أخرى، وفي تونس المحروسة أغلب حوادث العنف المسلط على النساء والأطفال هو عنف « عائلي »، معنى ذلك أن الفضاء الذي يفترض أن يكون الأكثر أمانا بالنسبة إلى النساء انقلب إلى الأشد عنفا ضدهن، حيث تبلغ النسبة ستين بالمائه، والذين يفترض أن يكونوا حماتها صاروا هم أكثر من يعنّفها. وكل هذا يخص العنف المادي وحده القابل للقياس والعد، أما العنف النفسي القائم على الإهانة التي لا تتوقف باللفظ والإشارة والحركة والمعاملة القاسية فلا نعترف له بمقياس سوى ما تبدو عليه الحياة الأسرية في بلادنا من سوء متعدد المظاهر وما تقوله تصنيفات عالمية لا نعرف لا محالة مقدار مصداقيتها ولكن في واقعنا ما يصدق قولها إن الشعب التونسي صار يصنف في السنوات الأخيرة ضمن أتعس شعوب العالم وأكثرها عرضة للانهيارات النفسية

أما الأسباب فكثيرة، الصعوبات التي تعيشها تونس في هذه الفترة نفسها، توسع متزايد ومفزع في ظاهرة البطالة، الارتفاع الجنوني في مستوى العيش بينما يتراجع الدخل الفردي وغير ذلك من الأسباب التي نستطيع أن نلقي مسؤوليتها على عاتق غيرنا، ولكن أود أن أشير إلى مسؤوليتنا، مسؤولية كل فرد فينا، مسؤولية من يرتكب العنف ولا يرى له بديلا لترتيب حياته ومن لا يرى ضررا ولا حرجا في ممارسته، مسؤولية من تخول له نفسه تعنيف أمه وأخته وزوجته وزميلته ، أو حتى أية امرأة يعترض سبيلها في الشارع دون سبب ولا دافع مباشر ولا سابق معرفة. السبب أيها السادة والسيدات هو أن العنف عند نسبة لا بأس بها منا ثقافة وأسلوب تفكير ونمط عيش، ثقافة تجعل نسبة هامة من المجتمع تتعامل مع العنف العائلي ضد البنات والنساء على أنه إما شأن خاص يعالج داخل العائلة أو هو أمر مطلوب لأنه من أساليب التأديب المشروعة ولأجل تأديب النساء ، والعنف ثقافة وأسلوب تفكير عند أرباب المال والأعمال والأراضي ممن يشغلون النساء بأقل الأجور لأنهم ينتظرون منهن عادة أن يرضين بكل ما يقرّرونه لهن وأن تستجبن لما يطلب منهن دون نقاش أو اعتراض وإلا فإن التهديد بالحرمان من العمل سلاح فعّال لكسر الإرادة في وضع تعاني فيه الفتيات والنساء خاصة من التمييز في فرص العمل وفي الوصول إلى الموارد رغم أن نسبة الحاصلات منهن على شهادات عليا تفوق نسبة الشبان، العنف ضد النساء ثقافة تبررها العادات والتقاليد، بل ويبررها الدين كذلك، ولهذا لا يحق لأحد أن يعترض على زوج يؤدب زوجته بالضرب طالما أنه يفعل ذلك تحث سلطة القول الإلهي، ولا أن يعترض على ربّ المال عندما يميّز في المعاملة والأجور وفرص العمل بين النساء والرجال طالما أنه يفعل ذلك اقتداء بالسلف الصالح!! العنف ضد النساء ثقافة تستبطنها نسبة لا بأس بها من النساء أنفسهن، يستبطنّ الدونية ويتصورن الاستجابة لما تمليه عليهن الذهنية الذكورية من أخلاقيات المرأة الصالحة ومن الواجبات التي يفرضها الدين، حتى يصرن قابلات بها، بل وأكثر دفاعا عنها من الرجال وأحرص على تربية أطفالهن على تلك العقلية وعلى ذلك السلوك التمييزي وعلى توريثها إلى بناتهن. فتستمر تلك الثقافة يتوارثها الجيل بعد الجيل وإن تبدلت القوانين وتغيرت الأوضاع المادية. ولا مخرج لنا من هذه الدائرة الجهنمية إلا بأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار عندما نضع البرامج ونستنبط الآليات لمقاومة العنف المسلط على النساء والأطفال بكل أشكاله الظاهر والخفية، المادية والنفسية والرمزية

بقلم زهية جويرو