يجب مصارحة الشعب قبل فوات الأوان! تمرير ناعم لـ «إصلاحات» موجعة

دأبنا في تونس وفي محيطنا العربي والإنساني على توصيف «ماي» بشهر النكبة في إشارة إلى تاريخ قيام الكيان الصهيوني ذات عام 1948، بيد أن مرارة طعم هذا الشهر تضاعفت في بلادنا في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخانقة هذا العام حيث تواتر «التعديل» في الأسعار دون مراعاة القدرة الشرائية لعموم التونسيين وحتى استطلاعات الرأي المثيرة للجدل صارت تتحدث عن ارتفاع نسبة التشاؤم وانعدام الثقة في المستقبل

صحيح أن الأوضاع في المنطقة غير مستقرة، وصحيح أن الاقتصاد العالمي برمته في أسوإ أحواله، وزادته تعقيدا واختناقا الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا، لكن التوقّف والتدقيق في بعض التفاصيل يحيلنا إلى الوقوف على حقيقة أن هذه الزيادات وهذه التعديلات المدخلة على الأسعار هي في جانب منها جراء انعكاسات العنصر الخارجي لكنها في نهاية المطاف خيارات «وطنية» وقع إقرارها في قانون المالية وميزانية العام 2022 في ديسمبر الماضي أي قبل اندلاع الحرب وقبل تفاقم الأزمات أيضا في الجوار

لقد اقدم البنك المركزي يوم الثلاثاء على إقرار الزيادة في نسبة الفائدة الرئيسية بـ 75 نقطة أساسية لتصبح هذه النسبة في مستوى 7،0 بالمائة وهو أمر جعل المختصين في الاقتصاد والمالية والمواطنين العاديين يطلقون صيحات الفزع. ليس ذلك فحسب حذّر البنك نفسه من المخاطر التصاعدية التّي تحيط بآفاق تطور التضخم في صورة استمرار غياب تنسيق السياسات الاقتصادية

وخلال الأسبوع المنقضي، أقرّت الشركة التونسية للكهرباء والغاز زيادات في تعريفتي الكهرباء والغاز بنسب تتراوح بين 12،2 و 16 بالمائة للحرفاء المنزليين و15 بالمائة للصناعيين

وكما هو معلوم، تندرج هذه الزيادة الجديدة في ما جاء في قانون المالية لسنة 2022 وستدخل حيّز التطبيق عند احتساب الاستهلاك للفاتورتين التقديرية والاستهلاك انطلاقا من هذا الشهر : المبارك

وقبل أيام، أعلنت وزارتا الصناعة والمناجم والطاقة والتجارة وتنمية الصادرات في بلاغ مشترك رفع أسعار الوقود للمرة الثالثة منذ مطلع العام الجاري، وجاء في شرح الأسباب أن أسواق الطاقة تشهد أزمة عالمية واضطرابات ومخاطر تتعلق بتقلص الإمدادات وارتفاع كلفة المواد البترولية وحرصا من الوزارتين على تأمين تزويد السوق المحلية بصفة منتظمة تقرّر تعديل الأسعار

وحصل الأمر نفسه مع مادة استهلاكية أساسية بالنسبة إلى التونسيين وهي السكر الذي عرف سعره ارتفاعا- أو لنقل تعديلا كما تروج الحكومة- بلغ نصف السعر القديم وتسري بعض الأخبار ومفادها التعديل لاحقا في مواد أخرى في إطار رؤية الحكومة الإصلاحية لملف الدعم والتعويض

هنا مربط الفرس، والأمر يتعلق بخيارات حكومية لرئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يتولى ضبط السياسة العامة للدولة لتسهر الحكومة على تنفيذها وفق الأمر عدد 117 الذي عوض به ساكن قرطاج الدستور

والخيارات الحالية كما صار واضحا ليست في النهاية سوى استمرار للخيارات السابقة لمنظومات الحكم المتعاقبة منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، وإن كنا نقدّر أن الظروف لم تكن تسمح لحكومة الرئيس الفتية في نهج طريقة أخرى غير القص واللصق لقوانين مالية سابقة، فإن الشعارات المرفوعة والوعود التي أصبحت معهودة تفرض على أصحابها على الأقل في ظل انحسار أو ربما انعدام الحلول «غير التقليدية» الجنوح إلى ما يمكن أن نسميه أضعف الإيمان ومصارحة المواطنين بالحقيقة احتراما لهم وضمانا لانخراطهم الواعي والطوعي في تنفيذ هذه الخيارات حتى وإن كانت موجعة على قاعدة تقاسم التضحيات وعدم الإفلات من المساءلة والعقاب

إننا على ما يبدو إزاء تمرير ناعم لإصلاحات موجعة لا بديل لمن هو في الحكم لها، والأدهى والأمرّ من ذلك أنها ليست قضاء وقدرا وإن كانت مملاة من المؤسسات المالية العالمية التي صارت الملاذ الأخير للحكم، وهو التمشي الذي سرّع بسقوط منظومات الحكم السابقة برمتها والتي خرجت من ثقب الباب كما يقال وتروم العودة اليوم من الباب الكبير

إن أقوم المسالك اليوم، في ظل ضيق ذات اليد وضيق الوقت، مصارحة الشعب كما نادى بذلك الطيف المدني والسياسي قبل فوات الأوان

تلك هي الوصفة الوحيدة في تقديرنا، المصارحة والنقد الذاتي والتسليم بالتشارك في الحل بين من لم يكن سببا أو طرفا في ما نحن فيه بطبيعة الحال وما عدا ذلك إبحار ضد التيار وسباحة على كوكب آخر

بقلم: مراد علالة