عندما كانت تونس تُصنّف ضمن ما يُسمّى بالدول النامية، أي الدول المتخلّفة والفقيرة ولكنّها سائرة في طريق النموّ، كنا مُتحسّرين عن وضعنا ولكننا كنا ننظر للمستقبل بعين التفاؤل آملين أن نتخطّى بسرعة هذه المرحلة لنلتحق بمصاف الدول المتقدّمة والمتحضّرة
لكننا اليوم، أصبحنا ننظر بعين الحسرة إلى تلك الفترة، بعد أن تخلّينا عن السير في طريق النموّ وسلكنا الاتجاه المعاكس، فأضحت بلادنا تسير بخطى حثيثة وثابتة في طريق التأخّر والانحطاط، سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا وأخلاقيّا
على المستوى السياسي، وبعد سنوات دمج التطرف الديني في السياسة، دخلنا فيما يُسمّى بالإجراءات الاستثنائية بوضع كافة السلطات بين أيد شخص واحد. وهو وضع يُمكن مبدئيّا تفهّمه لو كانت الفترة الانتقالية لا تتجاوز بضعة أسابيع أو بضعة أشهر على أقصى تقدير، ولو خُصّصت تلك الفترة لبناء سليم لمؤسسات جديدة للدولة بشكل واضح وتشاركي تُساهم فيه القوى المدنية الوازنة، وليس لتطبيق برنامج شخصي دون استشارة حقيقية. وفي الأثناء، تُحاط ُمظاهرة الولاء بالرعاية الأمنية وتُمنع مظاهرة المُعارضة. وفي الأثناء يُترك المجال واسعا لقوى الردّة والرجعية لإعادة هيكلتها صحبة عدد من الانتهازيين وبالتعاون مع الأجانب، ولا نجد في المقابل سوى التنديد اللفظي الغامض دون محاسبة ودون فتح الملفات الجاهزة والمعروفة لدى الجميع على غرار ملف الجهاز السري وملف تسفير الشباب وملف مقر جمعية القرضاوي الإرهابية
على الصعيد الاقتصادي، تعكّرت الأوضاع بشكل لم تشهده تونس عبر التاريخ. فلا أزمة سنة 1969 التي انتهت بإسقاط حكومة الباهي الأدغم ومحاكمة أحمد بن صالح، ولا أزمة 1986 التي انتهت بإسقاط حكومة محمد مزالي وهروبه من تونس، وصلت إلى هذا الحد من التداين الخارجي ومن الغلاء الفاحش لمعيشة المواطن. وإذا تلت الأزمتين سابقتي الذكر مجهودات جبّارة لتجاوزهما بدعوة أصحاب الكفاءات العليا لتدارك الوضع، فإن كفاءاتنا اليوم غير مسموعة، وغير مرغوب أصلا في سماعها، باعتبار أن السيد رئيس الجمهورية، الماسك بكافة السلطات اليوم في البلاد، ليس مُختصّا فقط في القانون الدستوري، وإنما أيضا في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والمالية… ممّا جعل التونسيين يُعانون لا من تبعات الأزمة على حياتهم اليومية فحسب، وإنما أيضا، وبالخصوص، من الغموض الذي بات عليه وضعهم ومستقبل أبنائهم
أما بخصوص الشأن الثقافي والحضاري والأخلاقي فحدّث ولا حرج. وهنا أودّ التذكير بما صرّح به مُؤخرا في إحدى الإذاعات رئيس المرصد الوطني للسلامة المروريّة بأن أكثر من 90 بالمائة من التونسيين لا يحترمون قانون الطرقات. وبخصوص هذا الموضوع أستحضر تصريحا لياسر عرفات وهو يُغادر تونس بعد أن قضى فيها زهاء السنتين في بداية ثمانينات القرن الماضي قال فيه: « إن شعب تونس شعبٌ مُتحضّر. يكفي أنه يحترم قانون الطرقات ». فأين شعبنا اليوم من شعبنا قبل أربعين سنة ؟
فشعبنا اليوم فيه من يدعو إلى الزواج العرفي، وفيه من يُؤمن بالمشعوذين ويلجأ إليهم بدل الاستنارة بفكر الأطبّاء والعلماء، حتى أن علماءنا أصبحوا يفرّون البلاد ليستقرّوا في الدول المتقدمة والمُتحضّرة حيث يجدون أوضاعا تعترف بعلمهم وتحترم قدرهم. وفي شعبنا من لا يُزعجه رمي فضلاته في الشارع وفي الأماكن العمومية غير عابئ بمضارّ تصرفاته على البيئة وعلى صحّته وصحّة غيره، تلك الفضلات التي تتراكم في جل شوارع المدن وفي جل مناطق البلاد لأن البلديات، ومؤسسات الدولة عموما، منشغلة بشراء السيارات الفخمة لموظّفيها وبتزويق مكاتبهم. وفي العديد من مدارسنا، وخاصّة منها رياض الأطفال، أخذت محتويات الكتب الصفراء وسموم مشايخ الهانة والدعوة إلى عدم إعمال العقل فيما قاله جهلة قرون الانحطاط مكان الفكر المستنير والعقل النقدي والعلوم الحديثة. حتى أن مدارسنا أصبحت تُفرّخ شبابا جاهلا عنيفا إرهابيّا، يلهث وراء الشهادات العلمية وجوازات السفر المُزوّرة والهجرة غير النظامية، وهي الصورة التي أصبح شباب تونس يُنعت بها في الخارج، سواء في الشرق العربي أو في الغرب. وإذا اجتمع العنف مع الجهل، وداعا للأمن، إذ تتكاثر الاعتداءات والبراكاجات، ويُصبح التعنيف اللفظي والمادّي من أكثر أدوات الحوار استعمالا بين الناس، وبين السياسيين، هؤلاء السياسيون الذين سقط الكثير منهم في التسلّط أحيانا وفي الانتهازية أحيانا أخرى، وأضحوا يبحثون عن مصالحهم الذاتية وعن السلطة بكل الأثمان، بدلا عن الدفاع عن الوطن وعن المبادئ والقيم
لنقُلها، حتى نكون صادقين مع أنفسنا: نحن دولة أخذت طريق التخلّف منهجا منذ أكثر من عشر سنوات، وما زالت مُصرّة على نفس المنهج بكل ما فيه من غموض وضبابية. ما زلنا مُصرّين على الانزلاق والانحدار وهدم ما بناه آباؤنا الوطنيّون من أجل النهوض بهذا الشعب وهذه البلاد
فالهدم سهل والبناء صعب. ألم يسقط برجا مركز التجارة العالمي بنيويورك ذات 11 سبتمبر 2001 في ربع ساعة، وقد أخذت إعادة بنائه عشر سنوات من الزمن؟
كم ستتطلّب إعادة بناء العقل التونسي الوطني المستنير المُتحضّر، وقد أُدخلت عليه، بفعل فاعل، عمليّات مُمنهجة للعودة به قرونا إلى الوراء؟
بقلم منير الشرفي