رسالة إلى الحبيب بورقيبة

لم يكن يخطر ببالي أن أخاطبك يوما، لا حيّا ولا ميّتا. ولكنني أعيش في هذه الفترة من حياتي ومن حياة تونس حالة غضب شديد جرّاء ما أشاهده يوميّا من ممارسات لا تخطر ببالك. ولأنني لم يعد يُوجد حولي من يحسّ بآلامي ومن يتفهّم أوجاعي، بعد أن فقدت والدي وأخي الأكبر، فتذكرت أنني « ابنك الفاضل ». ألم تكن تبدأ خطاباتك للشعب بالقول « أبنائي الأفاضل، بناتي الفضليات »؟ وأحيانا « أيها المواطنون، أيتها المواطنات »؟

اليوم، سيدي الرئيس، خطابات المسؤولين الموجّهة للشعب تبدأ بالبسملة والحمدلة والصلعمة. أي أننا لم نعد مواطنين في أذهانهم، وإنما رعايا المرشدين والوُعّاظ. ومع رجائي بألّا تُزعجك أخباري، لا بدّ أن أُذكّرك بما قلته ذات يوم إلى صحافي فرنسي عن مستقبل تونس باستعمال عبارة

«J’ai construit du solide»

. ولكنك قلت أيضا في مناسبة أخرى « لا يأتي الأذى لتونس إلّا من أبنائها ». وكنت على حق في المقولتين

فلقد بنيت فعلا صرحا قويّا عندما وضعت أسس الدولة المدنية الحديثة بتعليم « أبنائك الأفاضل » تعليما متينا تقدميّا يرتكز على حب الوطن وعلى الفكر النقدي وعلى التعايش مع الأديان واللغات والحضارات المختلفة، كما أقنعت « بناتك الفضليات » بوجوب التحضّر وبأن يلعبن دورهن كاملا في المجتمع. وهو ما جعل الشعب التونسي يُواصل استماتته في الدفاع عن ذلك الصرح المتين بفضل ما زرعه فيهم التعليم العمومي في العشريات الأولى من الاستقلال. كما أن محاولات الأذى بالوطن تتكرر من طرف البعض من أبنائه الذين حاولوا، وما زالوا يُحاولون بكل ما أوتوا من جهد ليفرضوا على التونسيين صفة الرعايا، بعد أن أقنعتَنا بأننا « مواطنون »، معتمدين في ذلك على مرجعيات الإخوان المسلمين والخميني، وباستعمال أموال أجنبية طائلة. فحاولوا، وما زالوا يُحاولون، السطو على البرامج التعليمية، وتغيير علمنا الأبيض والأحمر بعلم أسود، والحطّ من مكانة المرأة التونسية بإقناعها بوجوب تجاوز القانون والتعدّي على مجلة الأحوال الشخصية بتبرير ما يُسمونه بالزواج العرفي الذي لم نسمع به إلّا عندما استولوا مُؤقّتا على السلطة

فالفتاة التونسية التي كنتَ تُكرّمَها في قصر الجمهورية لنبوغها في العلوم العصرية أصبحت اليوم تُكرّم في نفس القصر لتديّنها وهي تلبس لباسا طائفيّا غريبا عن تقاليدنا. وبعد أن تعلّمنا منك تقديس العمل الذي كنت تُسمّيه بالجهاد الأكبر لبناء دولة متقدّمة كامل أشهر السنة، بما فيها شهر رمضان، أصبح المُفطر اليوم، ولو خلسة، يُعدّ من المجرمين.
كيف لا، وقد كنتَ تتلو علينا في خطبك قصائد ألفراد دو فيني ولامارتين، وها أن مرجعيات قادتنا أصبحت اليوم الاخشيدي وبغلة عمر والأوس والخزرج

كنت تتعرّض في خطبك باستمرار إلى هيبة الدولة، وكان كل من يعمل في الوظيفة العمومية، مهما كان موقعه، يجلب الاحترام، وكان يُفرض عليهم جميعا الهندام اللائق، وربطة العنق، وحلق الذقن ومسح الحذاء يوميّا، من الوزير إلى حارس الباب. وها نحن نرى اليوم المديرين العامين في الوزارات يذهبون إلى مكاتبهم بلحية ثلاثة أيام وحذاء رياضي في الشتاء و »شلاكة » في الصيف، استهزاءً بالمواطن وبالدولة

كما أن البرامج الثقافية، في الإذاعة وفي التلفزة وفي المسرح، كانت كلها توعويّة وتدعو إلى تقديس العلم والمعرفة وإلى إعمال العقل الذي كان يحلو لك تسميته ب »المادّة الشخمة »، وها نحن قد أدرنا ظهرنا للعلم وللحساب الفلكي وعدنا نعتمد، مثل أجداد أجدادنا، على رؤية الهلال لتحديد يوم دخول الأشهر القمرية، كما أننا اليوم نشاهد في التلفزة مسلسلات تحثّ التونسيين على التطبيع مع الزواج العرفي وعلى اللجوء إلى المشعوذين في حالات اليأس، ونقرأ في الصحف « أنه يجوز إفطار المسافر إذا كانت المسافة المقطوعة تفوق 89 كلم و40 مترا، وإذا تمّ الشروع في السفر قبل طلوع الفجر »، في استهزاء كامل للعقل التونسي، ذلك العقل الذي أصبح يُهاجر البلاد بمئات الآلاف ليستقرّ حيث يجد ما يليق بمستواه المعرفي ويجد من يُقدّر علمه حقّ قدره

أكتفي بهذا القدر من الأمثلة على ما أصبحت عليه بلادنا من تقهقر ثقافي حتى لا أُزعجك أكثر، لأُؤكّد لك صحّة مقولتك بأن الأذى لا يُصيب بلادنا إلا من أبنائها. ولكني أريد أن أُطمئنك بأن مقولتك الثانية بأنك بنيت صرحا ثابتا هي أيضا صحيحة، بدليل أن المستنيرين من الشعب واقفون سدّا منيعا أمام العربة التي تجرّ البلاد إلى الوراء.
صحيح أن النضال من أجل فرض الفكر المستنير على المجتمع وعلى أشباه السياسيين صعب للغاية ويستوجب طول النفس وكثيرا من الصبر، وأنت تعرف ذلك جيّدا، ولكن ثق أنه، كما أن الأذى أتى من أبناء البلد، فإن خلاص تونس سيأتي من أبناء البلد أيضا بفضل ما بقي من الصرح الثابت

بقلم منير الشرفي